
كان عقاب أهل قرطبة مخيفاً بل عقاب أهل الأندلس جميعاً فقد سقطت بعد ذلك (بالنثيا في عام 1236 م وهي العاصمة الشرقية للأندلس)، ثم سقطت قرطبة بنفسها في عام 1238 م بعد عامين من سقوط بالنثيا أي بعد موت ابن رشد بأربعين سنة (ولعل الذين طردوه من المسجد رأوا طردهم جميعاً هذه المرة) لأن عادة الاسبان جرت على تحويل كل مسجد إلى كنيسة فور دخولهم أي بلدة إسلامية.
ثم تكلل الانهيار بعد ذلك بسقوط مدينة اشبيلية في عام 1248م وبذلك سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي بتمامه، ليتبعه بعد عشر سنوات بالضبط سقوط الجناح الشرقي للعالم الإسلامي أعني بغداد على يد هولاكو عام 1258م وهكذا سقطا جناحا العالم الإسلامي في ظل الظروف والمناخات العقلية السائدة تلك التي دشنت نفي وتعذيب ابن رشد في شيخوخته، وليسطر العلامة ابن خلدون بعدها ملاحظته اللامعة بأن مناخاً جديداً يسيطر على العالم الإسلامي أعني (الانهيار والسقوط أو تفسخ الحضارة الإسلامية) حينما أشار بقوله وكأن لسان الكون نادى بالخمول فاستجاب.
إن الكثيرين من باحثي المعجزات العلمية في الآيات القرآنية أعيوا أنفسهم في محاولة (الاكتشاف العلمي) من الآية القرآنية، في الوقت الذي لم نسمع شيئاً عن ذلك قبل (الاكتشاف العلمي). وهذا ليس توجه القرآن بحال، بل إن القرآن وضع لنفسه توجهاً خاصاً وهوعدم الاستجابة لمطالب المشركين في إنزال المعجزات وورد هذا في عشرات الآيات القرآنية. القرآن أراد بالأحرى إيجاد (المناخ العقلي) الذي يكتشف آفاق العلم والإنجازات العلمية بدون حدود لإن الكون كله آيات من الكهرباء والجاذبية و ميكانيكا الكم والنسبية والحرارة والجيولوجيا و الانثروبولوجيا فكلها فضاءات معرفية وآيات، هذا المناخ العقلي الذي كان يكتشفه ابن رشد أضاء في مكان آخر وشق طريقه بصعوبة بالغة.
في 4 نوفمبر من عام 1415م جاء المصلح الديني (جان هوس)(JAN HUS) وهو من تشيكوسلافاكيا الحالية (اصبحت دولتا التشيك والسلوفاك انشقتا بدون قطة دم واحدة مقارنة بالمتخلفين الصرب في البوسنة حيث رسموا الحدود بخرائط الدم؟) جاء إلى مدينة كُنستانس الواقعة على الحدود النمساوية السويسرية (KONSTANZ)، ليُعرض على المجمع الديني المنعقد هناك وليُستجوب بسبب نقده المتواصل للكنيسة، خاصة في تصرفات الرهبان المالية، وبيع صكوك الغفران، وجمع ثروات الحرام (تأمل الآية: إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولاينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) وقد أغراه الملك الألماني (سيجيسموند) (SIGISMUND) بالحضور مع توفير الحماية له؟ إلا أنه اعتقل ثم قدم للمحاكمة بتهمة الهرطقة، واتهم في المحاكمة بكتاباته في ثلاثين موضعاً منها تدينه بالكفر والزندقة والمروق عن الدين، وأعطي مهلة للتراجع عن آراءه، وعندما اعترض على ذلك وبأنه مؤمن وأن الأمر لايخرج عن تأويلات سيئة لأقواله حكم عليه بالحرق حياً ونفذ الحكم في نفس اليوم حيث وضع على منصة خشبية أمام المتفرجين تأكله النيران!!.
وهذا الحرق أو ألغاء الإنسان من الوجود لأفكاره فقط كانت رحلة رهيبة اثناء بدء الحركة العقلية في أوربا، حيث تعرض (جيوردانو برونو) بدوره في السابع عشر من شباط \ فبراير عام 1600م للحرق أيضاً من أجل أفكاره ولم يتراجع.
والآن إذا كنا قد رسمنا بانوراما تاريخية لاولئك الذين يشقون الطريق إلى الحرية الفكرية والمناخ العقلي الجديد الذي سوف يشق الطريق للحضارة يبقى أن نختم البحث بقرار اللعنة الذي صدر أيضاً ضد اسبينوزا المفكر الهولندي (SPINOZA) الذي كتب في حياته كلها أربع كتب فقط منها (رسالة في اللاهوت والسياسة) و (رسالة في تحسين العقل) وكما يذكر صاحب كتاب (قصة الفلسفة) ويل ديورانت، أنه لم يتجرأ على نشر كتابه الأخير (الأخلاق مؤيدةً بالدليل الهندسي) الذي فرغ من كتابته عام 1665م فبقي عنده حتى الموت، وعندما جاءته المنية وعمره 44 عاماً، بعد أن افترس السل صدره، سلم مفتاح غرفته لصاحب البيت مع نسخة كتابه (الأخلاق) للطباعة الذي حفظ لحسن الحظ.
يقول قرار اللعنة: (بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ اسبينوزا.. وليكن مغضوباً وملعونا. نهارا وليلا وفي نومه وصبحه. ملعونا في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، ونرجو الله أن لايشمله بعفوه أبدا، وأن ينزل عليه غضب الله وسخطه دائما. وأن لايتحدث معه أحدا بكلمة، أو يتصل به كتابة، وأن لايقدم له أحد مساعدة أو معروفا، وأن لايعيش معه أحد تحت سقف واحدة، وأن لايقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع، وأن لايقرأ أحد شيئا جرى به قلمه أو أملاه لسانه).
بالطبع نحن نتذكر قرار مقاطعة قريش للرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن القرآن يذكرنا بأن إبراهيم كان أقوى من النار لأنه اعتمد الحجة الدامغة التي تبهت (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه)، لذا فإن حريق العلماء في أوروبا أيضاً لم ينفع لإنهم اعتمدوا سلاح إبراهيم الذي قدح زناد النور في الظلام المخيم.