آراءثقافة

طقوس على ضوء شمعة (2-2)

الكتابة عن الكتابة

بقلم: عفاف خلف.. روائية فلسطينية

تأتي هذه الشهادات استكمالاً للفصل الأول من طقوس الكتابة على ضوء شمعة، وهي عبارة عن شهادات الكتاب والأدباء الذين حالفهم الحظ ونالوا حريتهم، ليصيروا شهوداً على عملية الكتابة وطقوسها في الأسر وخارجه معاً، وقد كانت الشهادات استرجاعاً للطقوس التي مارسوها أثناء عملية الاعتقال وسنوات الأسر، يقول أمير مخّول “من مدينة حيفا وقد اعتفل في العام 2010 وحكم بالسجن تسع سنوات “جئت إلى السجن من عالم الكتابة باستخدام الحاسوب، وكانت العودة القسرية إلى الكتابة اليدوية واكتشفت متعتها من جديد، متعة مقاربة النص ومداعبته بأصابعك، وتعلم مهاراتها من جديد.

إن الكتابة في الأسر تضعك ربما في مواجهةٍ مع أساسيات الكتابة ” الدنيا “، فسحة وقتٍ مستقطع ومختلس من براثن السجان، ومساحةٍ لا تزيد عن 30*40 سم تشّكل في ضيقها رحابة العالم كله في أيام البرد إذ أنها المساحة التي تقارب باب الزنزانة والمخصصة للأسرى المدخنين الذين يهجرونها في الشتاء لذريعة البرد، ولكنها بالنسبة لأمير متنفساً وأرضاً للكتابة، ويحدثنا أيضاً عن الكتّابة طاولة الكتابة المبتكرة، وفجوة الوقت بالنسبة لكاتب صحفي يكتب المقال السياسي إذ غالباً ما تصل الكتابة بعد انتهاء الحدث وطمره تحت ارهاصاتٍ جديدة، وقد يتشّكل الخطر في كلماتٍ معينة قد يكتب لها المرور تحت عين الرقيب العسكري فيصادر المقالة ولا ترى النور.

أما الشاعر جمعة الرفاعي ،مدينة رام الله – اعتقل مدة ثلاث سنوات ونصف من العام 2004 وحتى العام 2007 ” فيرى أن المكان ليس عاملاً مؤثراً وليس بذي صلةٍ في الكتابة، فالسجن كأي مكانٍ آخر، ” فالمعتقل كمكان ليس إلا فرصة لاقتناصها لتحويل هذا الاكتراث الداخلي مع النفس إلى مادة موازية مع الفعل والحركة “، ويجيب جمعة على سؤال الطقوس بذات الرؤية الفلسفية للكتابة بأن لا طقوس للكتابة داخل المعتقل ضمن تجربته الشخصية ” طبعا ً ” – وإلا لطال النفي طقوساً مضت وشهادات ستأتي – فالدنيا هي سجن المؤمن، وما المعتقل إلا حيز ضيق يتيح للشخص التأمل ويساعد في اتساع الفكرة ورحابتها، وبذلك أصبحت الكتابة لدى جمعة ” آداة حرية لم يذقها سوى في المعتقل “! واعتقد أن هناك تضاداً ما، ما بين شهادات الأسرى وشهادة جمعة الرفاعي، هناك اكثر من تضاد ما بين ” الحرية المنتهكة ” و ” الطقس التأملي ” للكتابة، هناك تضاد ما بين ” المكان ” المصمم لمصادرة ” حريتك ” وما بين ” المكان ” الذي هو انسحاب داخلي وفرصة ” لاقتناص تحولات الذات” وإنزالها إلى عالم الإبداع والكتابة، ولا أظن أن جمعة..

في السجن حتى تلك القيود التي ترسم علامتها على قدميك ويديك عند ذهابك للمحكمة أو للعيادة كانت كفيلة أن تستفز قلمك، لا لتكتب رواية أو تنثر شعراً لكن لتجد متسعاً على الورق لعلك تفرغ احتضار الصبر أحياناً في صدرك ” هكذا كتبت جيهان دحادحة ” أمضت 16 شهراً في سجون الاحتلال على خلفية انتمائها لفصيل سياسي واشتركت في كتابة تجربتها الاعتقالية في كتاب ترانيم اليمامة ” في شهادتها عن الكتابة، ربما بالنسبة لي هذه هي الشهادة الأصدق لحاجة ” الانسان الأسير/ مطلق أسير ” للكتابة، حين تصير الورقة منجاة من الجنون أو الوحدة أو نافذة حرية، جيهان التي رأت في الورقة عدواً أثناء فترة التحقيق واقتصت منها بتمزيقها إلى فتات، أصبحت الورقة بعد صدور الحكم رئةً ومتنفساً ولازمة لخط لا التجربة وحسب، بل كل ما يعتمل داخل الأسير من انفعالات. تحدثنا خالدة جرار ” سياسية فلسطينية وناشطة نسوية يسارية اعتقلتها السلطات الإسرائيلية مرات عديدة اعتقال إداري دون توجيه تهم ” تحدثنا خالدة عن طقوس للكتابة تختلف باختلاف المخاطب، فكتابة رسائل الأهل تختلف عن كتابة رسائل التضامن، عن كتابة المقالة أو إعداد الدراسات ولكل نوعٍ طقوسه وظروفه الخاصة به والمتعلقة بالسجن أيضاً، فرسائل الأهل تأتي دون طويل تفكير أو تحضير، أما رسائل التضامن فغالباً ما تكون قصيرة ومقتضبة لأنها تمر تحت عين الرقيب العسكري.

أما المقالة والدراسة فلهما طقوسهما الخاصة المرتبطة بزمن ومكان الكتابة ” خلق حيز خاص في فضاء عام ” وصعوبة إن لم نقل استحالة خلق هذا الحيز مع رفاق الزنزانة والأسر، عدا قلة المراجع وصعوبة توفرها في سجن النساء تحديداً، إذ كثيراً ما تتعرض الكتب للمصادرات ويظل الخوف على المادة المكتوبة من المصادرة سيفاً مسلطاً على الكاتب حتى ترى كتابته النور، فالكتابة مثل الأسير أسيرة وتحريرها من خلف القضبان خاضع للمساءلة والرقابة والمحاكمات العسكرية أيضاً.

يقول رأفت حمدونة – من مواليد مخيم جباليا اعتقل في العام 1990 وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً واغلاق جزء من منزله – أن ” القلم يمثّل بندقية الأسير بعد الاعتقال من وجهة نظره، والورقة هي ساحة المعركة الاعتقالية على كل الجبهات، معركة إظهار المشاعر النبيلة مقابل ثقافة الحقد والكراهية وتحطيم القيم الإنسانية، معركة العلم والمعرفة مقابل سياسة التجهيل والأمية، معركة الأمل والتفاؤل مقابل سياسات التشاؤم والتيئيس والإحباط “، والكتابة في السجن ليست وليدة الصالونات المكيفة أو البساتين والشواطئ بل هي وليدة عتمة الزنازين والمعاناة ما بين الجدران وظلم السجان، ففي البدايات التي لم يكن يُسمح للأسير بطاولة ولا حتى ابتكار ” الكتّابة ” كان ” الأسير الكاتب يلجأ إلى الانحناء على غلاف كتابٍ سميك يكون طاولته للكتابة مع ما تصنعه تلك الكتابة من انحناءٍ للظهر وآلام لا تنتهي، ومحاولة امساك خيط الضوء المتسلل من فتحة نافذة باب الزنزانة بعيداً عن عين السجان، ما أمكن، هروباً من الوشاية لضابط الأمن الذي لن يتوانى فجراً من اقتحام الزنزانة ومصادرة الوليد الجديد”، إن شهادة الأسير رأفت حمدونة الذي له عشر إصدارات، آخرها كان ” الجيش الإسرائيلي مركبات القوة والانحطاط ” وصدر في العام 2022، هي شهادة تحدٍ وبناءٍ للذات ضمن أعقد الظروف وأكثرها حلكة، إنها قصة نجاح خلف القضبان رغم أنف السجّان والمحتل، إنها معركة الكف التي تقاوم المخرز والقلم الذي هو شمعة في عتمة السجن المسالة لتحتل العمر والأيام.

الكلمة في الأسر، المقروءة والمكتوبة، تحلق بصاحبها فوق الجدران والأسلاك” مستلهماً تجارب أسرى يكتبون لا تجربته فقط، هكذا كتب سعيد نفاع – من قرية بيت جن الداخل الفلسطيني المحتل، وأمين عام اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين/ الكرمل – مقيّماً التجربة.

إن سعيد الذي توطدت علاقته مع الأسرى سريعاً كسجين أمني بعد لقائهم كمحامي ونائب، سرعان ما وجد نفسه ناقداً ومقيّماً لعديد من المخطوطات وعلى اطلاع بتجارب الكثير من الأسرى ورحلتهم مع الكتابة، وهذا التفاعل ترجم نفسه في سؤال وجودي ربما، لماذا صار الخليلي والقدسي والنابلسي والتلحمي كتاباً خلف الجدران الباهتة! أو ربما هو الفحوى الديكارتي الموازي للوجود! أنا أكتب إذن أنا موجود! ماذا لو كانت المعادلة أكثر تعقيداً على نحو ” أنا أكتب إذن أنا أنسان” ! إن الأسير المسلوب الحرية والإرادة والمنتهك حقوقياً وجسدياً ونفسياً يحفر من خلال الكتابة كينونته الإنسانية، تلك الكينونة التي هي أيقونة لا يطالها مسٌ ولا انتهاك لأنها الروح التي لا تُمس.

فـ” الكتابة فعل ذاتي جارح بالضرورة ليكون صادقاً وقادراً على التجدد، ثمة ألم يدفع نحو الكتابة، وثمة كتابة تدفع نحو مزيد من الألم، ألم الانكشاف على الذات والتجربة والأثر، ثم الولادة من جديد ” تقول سلام أبو شرار – أسيرة محررة من الخليل – وتضيف ” التزمت الصمت بعد خروجي ولم أقدر على الكتابة لأن ما حملته في قلبي لوقت طويل كان أشد كثافة من اللغة “، إنها الكثافة ذاتها التي جعلتها تذيل أوراقها بسجن الدامون – حيفا، وكم حيفا ستنهض في ذاكرتها، حيفا التي تنهض كل صباحٍ عند شاطئ البحر، أم حيفا المتخيلة، المسترقة من ذاكرة من عاشوها، أما حيفا ” الهواء الجارح ” الذي يعبر الشبك الحديدي للسجن ليلفح إسلام ويذكرها أن هواء البلاد ليس بالضرورة دائماً برداً وسلاماً على أهلها، في السجن كلما شنفت الموسيقى أذنيها كانت تنحاز إلى القلم والأوراق فتكتب بإنسياب يشابه مقطوعة ما، وخارجه هي بانتظار انقشاع الكثافة وارتفاع الغمام أو ربما اقتراب الغمام لتهطل.

اختار صالح أبو لبن – أسير محرر من مخيم الدهيشة من قرية زكريا المهجرة غربي بيت لحم، اعتقل مدة خمسة عشر عاماً – اختار صالح لشهادته عنوان ” طقوس الكتابة في سجون الاحتلال الإسرائيلي ” وربط الطقوس ” بطقسنا النفسي والشخصي فكلما زارنا عارض احتلالٍ وقهر كلما نزفنا على الأوراق وصار القلم مراهم الطهور التي نبحث فيها عن تحلل من الألم والوجع، فكيف تواجه مهندسي المتفجرات الذين سيهدمون بيتك!، كيف ستلتقي وعائلتك وقد أخرجوها خالية الوفاض لا يقيها سوى الركام! كيف ستواجه كل هذا إلا عبر ورقٍ يحمل رمادك! كيف ستكتب طقس الحب حين يكون الجلاد على مقربةٍ يبحث فيك عن نقطةٍ ضعفٍ ليوهن فيها عزيمتك ويفل إرادتك! ضمن أي الطقوس ستكتب وكيف ستكتب والأيام تتكسر على شواطئها السنوات والسنوات تتراكم كرمال الصحراء لا يظلها إلا سراب الأمل، إن الورقة والقلم ليست وليدة ” كرم ” إدارة السجون بل هي معركة خاضتها الحركة الأسيرة بأمعائها الخاوية لتصير حقاً، ففي العام 1971 خاضت الحركة الأسيرة حرباً ضروس من أجل الورقة والقلم، ومن هنا كانت انطلاقة فارسنا بعد أن صنع صومعته التي هي وقتٌ مستقطع من تحت أنف الرقابة العسكرية، والكثير من الكتب المنوعة في كافة الموضوعات، وعزلة راهب صنع من ” الفرشات الإسفنجية والبطاطين ” مقعداً يشبه الأريكة يطويه كل صباح كي لا تمتد له يد السجان بالمصادرة، ورغم الحرية يظل الحنين إلى تلك الصومعة يأخذه في رحلةٍ إلى هناك، هناك التي هيأت البذرة ليصير ما آل إليه.

الأسير المحرر عبد الكريم زيادة المتمرس والمتمترس بالكتابة لطبيعة الصحفي فيه، يكتب منذ اللحظة الأولى لللاعتقال، يكتب شفاهةً على سطح العقل الباطن، على جدران ذاكرته، يحفز ذاكرة الحواس لتختزن ما تراه وتلمسه وتسمعه وتحسه وتتذوقه للحظة حضور الورقة والقلم، فثمة ذاك الزمن المقطوع الذي يمر فيه الأسير دون معينٍ من قلم أو صديق أو رفيق ليبث فيه بعضاً من أوجاعه وآلامه، وهناك الكثير من اللحظات التي تغيب تحت غبار ” الرغبة ” في النسيان، أو ربما تحت ارهاصات الللاشعور، ” يكتب الأسير بين صفيحين أحدهما يعتليه ويجلس عليه، والآخر يعتلي الأسير، أسلاك شائكة لا تسمح بفضاء كامل أن يمر” عدا المصادرات والقمعات التي تهدد كل مادة مكتوبة بالدمار، وأكثر فالكتابة في الأسر تعني دائماً تضحيتك لا بوقتك المخصص ” بالفورة ” لتحظى بعزلةٍ نسبية بل أيضاً تضحية بصحتك نفسها من خلال ” التقوس والانحناء ” على الورقة، والإضاءة الضعيفة، والكتًابة الضيقة المثبتة على ساقي الأسير بوضعية واحدة ولساعات، يكتب ضمن الزمن المنتهك بعشرات المقاطعات، بالعدد، بالفحص الأمني، بروائح الطعام، بالضوضاء ولكنه يكتب في طقوس عبادةٍ للحرية.

إن مجرد القدرة على الحب أو التعبير عن الحب هو انتصار لجوهر الإنسان الذي يريدون قتله فينا ” إنها الإجابة ” الجدوى والفحوى ” عن ماذا نكتب، أو لماذا نكتب رغم أن السؤال لم يطرحه ” عصمت منصور ” أسير محرر وصحفي متخصص بالشأن الإسرائيلي” ولكنه أجاب عليه. يروي لنا عصمت كيف بدأت رحلته مع الكتابة من خلال مكتبة السجن والقراءات المنتظمة النهمة، فكي تكون كاتباً جيداً عليك أن تكون قارئاً جيداً كذلك، يروي لنا كيف بدأ رحلته مع النشر، وتكوين المنتديات الثقافية في السجن، والقراءات التي تحظى بها النصوص وعمليات النقد، كل هذا في حراكٍ ثقافي داخل سجنٍ أرادوا منه أن يكون مقبرةً للإنسان فتفجرت الطاقات لتصير أنهار الضوء تسيل من زنزانة لأخرى ومن قسم إلى آخر وتقهر العتمة، عصمت الذي ترجم سيرة السجن في العديد من الروايات والإصدارات آخرها كان الخزنة التي صدرت عن دار طباق للنشر والتوزيع.

“ما كتبته لحبيبتي ليس أدب المعتقلات كما يطلقون عليه، إنه أدب الحياة بعد الموت وبعد الحشر، علم آخر ليس ككل العلوم التي تُدرس في الجامعات، علم الجدران التي تتكيف على هيئة إنسان في قبو الوقت، قصائد وخواطر وهواجس تتكئ على كلماتٍ مذبوحة وإيقاعات تشبه رفرفة الشهقات ” هذا ما كتبه الأسير عيسى قراقع – اعتقل أول مرة عام 1981 وأعيد اعتقاله مراراً وفرضت عليه الإقامة الجبرية – واصفاً ما كتبه لحبيبته خولة من رسائل.

عيسى الذي اختار ” وقع ” الكلمة كقارىء ليخبرنا عن طقوس ” التلقي ” لا الكتابة، عن ” الحبر، هذا الحبر الذي هو ماء المحاولة والمخيلة” والذي أعطاه ” تلك القدرة الباطنية أن أكون أنا الآن، وأنا الأخرى، وأبني جسراً وأكسر الدائرة؟ ” إنها الكلمة الجناحين، الكلمة السحر التي لها زمنها وسطوتها ومملكتها وإرادتها التي تصهر فيها إرادتك لتصير خلقاً آخر، لتصير ما تريد.

فــأي دولة تلك التي ترهبها الكلمات”، تُطفىء الأنوار كي لا تنقلب الدولة إلى كابوس ” البؤس ” ووجه المستعمر القبيح إذا ما انتهى ” الوقت ” المخصص، وتصادر الأقلام والدفاتر، ولكن وإن صادروا فإن قلم الذاكرة ما زال يشخب بكل الصور، فتحضر الزنزانة والصديقات وأيام التحقيق والتعذيب وتسيل نهارات الليل لنوثق التجربة، ذاك فحوى شهادة مي الغصين – أسيرة محررة اعتقلت عام 1991 وخرجت في صفقة تبادل بعد اثني عشر عاماً قضتها في السجن – مي التي رأت في الكتابة “خيالاً واسعاً لعالم الزنزانة الضيق “، وبالقلم تحطم قضبان زنزانتها واحد تلو الآخر وتحلق.

لنادية الخياط – أسيرة محررة في عملية تبادل اعتقلت في العام 1979 وحكم عليها بالسجن المؤبد وعشرين عام – قصة أخرى مع القلم والورقة، ذاك الحق المنتزع عبر نضالات خاضتها الحركة الأسيرة وكانت نادية شاهداً ومشاركاً في تلك المعارك، الورقة والقلم والكتاب والذي يرى فيهم الاحتلال امتيازاً يستطيع حرمانك إياه، ومصادرته ولا يقف الأمر هنا، بل له حق الاطلاع على كل ما تكتبه ومحاسبتك عليه أيضاً، فكم من كلمةٍ أودت بصاحبها لتحقيق جديد، أو عزل جديد! ومع كل ذلك ما زال الأسرى يكتبون، لأن خلف كل كلمةٍ حكاية، وخلف كل حكايةٍ إنسان.

أما ناصر أبو خضير ” أسير محرر من مدينة القدس ” فإن شهادة طقوسه تتحول إلى شهادةٍ لطقوس خمسٍ من الأسرى، خمس من الحالات الإبداعية التي ولدت في ” دفيئات المعتقلات ” هناك حيث يُلقح الوعي وتغرس بذور الإرادة وتصير الثمرة إنسان. ناصر الذي هو ” القارئ والقاضي والناقد ” يقرأ بعين بصيرته إبداعات أصدقائه الأسرى، ويحتفي بطقوس إبداعهم لأن الثمار طيبة رغم كل الظروف.

فحياة السجن ” تفرض شروطها، وعلينا أن نتعاطى الحياة ونكتبها ” ذاك هو محور طقوس وداد البرغوثي – صحافية وكاتبة فلسطينية تحمل درجة الدكتوراة – وداد كتبت في كل الظروف وتحت كل طقس، كتبت على الحديد البارد ” للبوسطة ” بحزام الأمان، كتبت بالدم اسمها فوق مغسلة عوفر بانتظار المحكمة، وكتبت على صحن الفلين الذي يحمل إليها ” وجبة السجن “القميئة، وكتبت روايتها الخامسة ” حين يعمى القلب ” في حبسها المنزلي حين خضعت للإقامة الجبرية وليعتقلها الاحتلال قبل إنهاء الرواية لتعود وتكتب روايتها السادسة ” البيوت ” في حبسها المنزلي، فلا طقس خاص تحت احتلال، حيث كل شيء معرض للانتهاك وكل شيء معرض للمصادرة من الورقة إلى الجوال، إلى الحاسوب، فالحياة تفرض ظروفها وعلينا أن نكتب، فالظلم والقهر طقسين كافيين لتكتب وتوثق وتفضح.

يخبرنا وليد الهودلي – مواليد مخيم الجلزون واصله من عباسية يافا اعتقل عدة مرات وأصدر مجموعة من المؤلفات – عن ضرورة كتابة التجربة الاعتقالية، وعن ولادة روايته ستائر العتمة، كيف ولدت ولماذا ولدت وصداها لدى الاحتلال اللعين، ويكفي أن نعلم أنه كان في منتصفها ” وصبيحة يوم خميس جاء اسمي على قائمة النقل من سجن عسقلان إلى هداريم على أن يكون صباح الأحد، وهذا يضعني أمام خيارات صعبة فإن أخذتها معي فإن احتمال مصادرتها كبير جداً، وإن تركتها غير مكتملة فالأمر عسير كالذي وقف وسط السلم، وعقدت العزم على إنهائها قبل الرحيل، قبضت على رسن القلم وسرت به من صباح الخميس إلى صباح الأحد دون أن يغمض لي جفن ” ولم تنته الرحلة..

“ليغرق العالم بكتاباتنا، ليدرك مدى خوف المحتل، ليدرك جرائمه في حقنا، وليدرك عظمة الثمن الذي ندفعه لحريتنا وعمق إرادة التحدي الذي يملكه شعبنا ” تلك صرخةٌ أطلقتها وتطلقها الأسيرة المحررة عائشة عودة – من قرية دير جرير رام الله – إن مبادرة لكل أسير كتاب التي أطلقها الأستاذ المحامي حسن عبادي تنطلق من هذا الوعي ” بضرورة ” توثيق كل الجرائم والانتهاكات التي تمارس بحقنا، وكل الانتهاكات التي تطال إنسانيتنا، فلسنا في سوق عكاظ أدبي لنقرر ما يستحق أو لا يستحق الخلود، أو المفاضلة ما بين كاتبٍ وكاتب، إنما نحن في معرض تجربةٍ إنسانية وكل ” وجعٍ إنساني ” سببه وحشية ” الإنسان ضد أخيه الإنسان ” لهو جدير بالتوثيق والقراءة حتى لا نصير عبيداً ” للظلم ” الذي يؤاكل كل القيم الإنسانية، كل الجمال الذي به نؤمن، وحتى يظل الإنسان إنساناً لهذا سيكون لكل أسير كتاب يروي حكايته.

https://anbaaexpress.ma/ldiz1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى