تسود أجواء من التوتر الصامت بين الولايات المتحدة وإسبانيا، بعد أن عادت القاعدة العسكرية الأمريكية في مدينة “روتا” بجنوب البلاد إلى واجهة الجدل السياسي والدبلوماسي، على خلفية الخلاف المتصاعد حول التزامات مدريد الدفاعية داخل حلف شمال الأطلسي.
فبينما يضغط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرفع الإنفاق الدفاعي إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، تتمسك الحكومة الإسبانية بسقفها الحالي البالغ نحو 2 في المائة، معتبرة أن أمنها لا يُقاس بالأرقام بل بفعالية الالتزامات.
ووفقًا لتقرير لوكالة رويترز، فقد رفضت كل من مدريد والمفوضية الأوروبية التحذيرات الأمريكية التي لوّح بها ترامب، مشيرة إلى أن التهديد بفرض رسوم جمركية إضافية على المنتجات الإسبانية يمثل “ابتزازًا تجاريًا” غير مبرر.
وأبدى الرئيس الأمريكي انزعاجه من كون إسبانيا هي الدولة الوحيدة في الحلف التي لم تقبل بالمقترح الجديد، ملوّحًا بإجراءات عقابية تشمل مضاعفة الرسوم خلال المفاوضات التجارية القادمة.
من جهتها، أكدت المفوضية الأوروبية أن السياسة التجارية تدخل في اختصاصها الحصري، وأن أي خطوة أحادية من واشنطن ستُواجَه بردّ مماثل، مذكّرة بأن الاتفاق التجاري الموقع بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في يوليو الماضي يشكل الإطار الأنسب لتسوية الخلافات.
وفي مدريد، شددت وزارة الاقتصاد والتجارة على أن النقاش حول الإنفاق الدفاعي يجب أن يستند إلى تقييم التحديات الأمنية الفعلية، مؤكدة أن إسبانيا رفعت إنفاقها الدفاعي تدريجيا خلال السنوات الأخيرة ليبلغ 32.7 مليار يورو، أي ما يعادل 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وأوضحت وزيرة الدفاع مارغاريتا روبليز أن اجتماع وزراء دفاع الحلف لم يتطرق إلى هدف 5 في المائة لعام 2035، مشيرة إلى أن الاهتمام ينصب حاليا على الوضع في أوكرانيا، دون أن تستبعد مراجعة الموقف الإسباني في المستقبل.
وبحسب رويترز، تفكر واشنطن في إجراءات اقتصادية مشابهة لتلك التي اعتمدتها في تسعينيات القرن الماضي، حين فرضت رسوماً بنسبة 100 في المائة على منتجات أوروبية مثل الشوكولاتة والكمأ، رداً على خلافات تجارية.
وتشير التوقعات إلى أن هذه المرة قد تطال العقوبات سلعاً إسبانية رئيسية، أبرزها الزيتون الأسود، الذي كان هدفًا لإجراءات أمريكية مماثلة سنة 2018، حين تراجعت حصة السوق الإسبانية في الولايات المتحدة من 49 إلى 19 في المائة.
لكن الخلاف لا يقتصر على الاقتصاد، فالتوتر العسكري عاد ليطفو إلى السطح بعد تلميحات من مسؤولين أمريكيين سابقين بإمكانية نقل القواعد العسكرية الأمريكية في جنوب إسبانيا إلى المغرب، وهي فكرة أُعيد تداولها داخل دوائر واشنطن ومدريد خلال الأشهر الأخيرة، مع تصاعد الشراكة الأمنية بين الرباط وواشنطن منذ توقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل عام 2020.
ورغم ذلك، تستبعد أغلب التقارير الإسبانية أي نية أمريكية فورية للانسحاب من قاعدة “روتا”، مشيرة إلى أن واشنطن صادقت في يونيو الماضي على خطة تطوير بقيمة 100 مليون دولار تشمل إنشاء مستودعات للصواريخ ومحطات لوجستية وورش صيانة متقدمة، إلى جانب مشروعين لتخزين الوقود بقدرة 50 ألف برميل لكل منهما.
وتؤكد هذه المعطيات أن واشنطن تُرسّخ وجودها بدل تقليصه، إذ تُعدّ قاعدة “روتا” اليوم محورًا استراتيجيًا في منظومة الدفاع الصاروخي لحلف الناتو، وتستضيف أربع مدمرات أمريكية متطورة إلى جانب 2800 جندي، ما يجعلها ركيزة أساسية في أمن أوروبا والبحر المتوسط.
كما تُسهم القاعدة بنحو ثلثي النشاط الاقتصادي لمدينة روتا، ويمنح موقعها الجغرافي المطل على مضيق جبل طارق امتيازًا استراتيجيًا نادرًا في مراقبة الممرات البحرية بين المتوسط وشمال إفريقيا، ما يجعل فكرة نقلها إلى أي بلد آخر، بما في ذلك المغرب، معقدة من الناحية التقنية والسياسية على حد سواء.
وتبقى فرضية النقل حاضرة فقط كورقة ضغط ظرفية كلما توترت العلاقات الأمريكية الإسبانية، بينما تشير الوقائع إلى أن البلدين يسعيان إلى الحفاظ على توازن دقيق بين ضرورات التحالف داخل الناتو، وحدود الاستقلالية الوطنية في رسم السياسات الدفاعية، في مشهد يختبر مجددًا حدود النفوذ الأمريكي في أوروبا الجنوبية.




