آراء
أخر الأخبار

الفلاح المغربي بين أصالة الأدوار ومعضلات التدبير الحكومي

إن هذا الدور المتنامي لشركات السمسرة وكثرة الوسطاء واحتكار بيع البذور، قد أخل أيما إخلال بدور الفلاح المغربي وجعله الحلقة الأضعف ضمن الدورة الاقتصادية للبلد ككل. فلا هو بقي قادرا على تحقيق ربحه المعهود، ولا استطاع استعادة توازناته المالية وتوسيع أنشطته وتغدية السوق كما في السابق

الدكتور دداي بيبوط

يتأسس الدور المهم للفلاح المغربي على مستوى المجتمع والدولة على تراث اقتصادي معيشي تاريخي عريق، جعل منه لبنة أساسية من لبنات حفظ الأمن الغذائي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي للمغاربة. فهو صاحب غراسة الأقوات ومربي الأنعام ومؤسس الأسواق ودافع المكوس والضرائب على اختلاف مستوياتها باختلاف الظرفيات.

إنه الحلقة الأهم في اقتصاد الإيالة الشريفة ماضيا وحاضرا، وتحت ظله الوارف تنشأ وتنمو القطاعات الإنتاجية الأخرى، من حرف تقليدية وخزف وفخار وتجارة وبناء وغيرها في تناغم واضح مع مذهب الاقتصاديين الفيزيوقراطيين ونظريتهم الاقتصادية التي انتشرت خلال القرن الثامن عشر بأوربا، واعتبرت أن الأرض والملكية العقارية أصل كل ثروة وعصب النظام الاقتصادي لأي بلد.

فهذا الاتجاه الفكري، وإن تعرض لنقد لاذع في بيئته بعد ذلك، فله راهنية وجاذبية لا تخفى على أحد وتؤكدها حقائق التاريخ والاقتصاد في بلادنا ومنطقتنا المغاربية والعربية ككل. لقد لعب الفلاح المغربي ولا يزال أدوارا لا يستهان بها في ظهور القرى الزراعية التي تنتج المحاصيل المختلفة، كما كانت له الأدوار ذاتها في نشوء قرى أخرى تجارية جمعت بين الإنتاج الزراعي والفلاحي وتسويق منتجات الجوار القبلي، بحكم تواجدها وسط السهول والهضاب في مناطق تتوسط القبائل وتحظى بالأمن والسكينة سمي أغلبها بأسماء أيام انعقاد الأسواق بها.

وهكذا، وعلى مجموع تراب وطننا لا تكاد تعبر مسافة خمسين ميلا دون أن تجد اسما كاثنين أملو، ثلاث اصبويا، أربعاء مستي، خميس الزمامرة، جمعة سحيم، سبي اكزولة، حد أولاد دحو، وغيرها من الأسما والقرى والمداشر التي لعب الفلاح المغربي عبر تاريخ طويل دورا طلائعيا في تأسيسها وتغذيتها بما جادت به أرضه من منتجات وأقوات ومواش وفخار، فاسحا المجال للصانع والتاجر للانخراط في الدورة الاقتصادية عبر الإنتاج والوساطة والبيع والشراء خدمة للتنمية المحلية وذرءا للاضطرابات التي قد تنشأ عن فراغ الأسواق من المؤن أو غلائها بسبب قلة الإنتاج أو الاحتكار.

وهي أمور كان قد تفطن لها دهاقنة الاستعمار من ضباط عسكريين أوربيين وباحثين سوسيولوجيين ومؤرخين منذ أن وطأت أقدامهم المغرب واختلطوا مع العامة ودخلوا مجال القبائل، مركزين في تقاريرهم على الدور الكبير للبادية المغربية وأسواقها المنتشرة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا في تسهيل إحكام السيطرة الاستعمارية وتحقيق التهدئة وحفظ الأمن وإنعاش الدورة الاقتصادية للمغرب المحمي، موجهين اهتمامهم على نخب البادية المغربية التي اختاروا منها الباشوات والقواد وأعيان القبائل لفترات ليست بالقصيرة، نظير ما امتازوا به من حظوة في مجالاتهم القبلية البعيدة عن المركز، وأدوارهم في التهدئة والارتباط بدار المخزن وحفظ أمنه.

وتأسيسا على ذلك، ضمن الباحث الفرنسي المستعرب ريمي لوفو REMY LEVEAU في كتابه الشهير “الفلاح المغربي المدافع عن العرش”، ما صرحنا به انفا، مؤكدا غيرما مرة بأن المخيال الاجتماعي للمغاربة لا يزال يحفظ للفلاح المغربي الدور الأكبر في تموين المدن بالغذاء والسلع الزراعية المختلفة واللحوم والألبان وحفظ السلم الأهلي واحتضان الفقراء وإطعام الناس، ومبرزا فيه أن الأعيان القرويون في المغرب المستقل عاودوا الظهور على مسرح الأحداث سنوات قليلة بعد استقلال البلاد، مؤكدين أنهم الدار والخيمة الكبيرة الجديرة باستحقاق أي مسؤولية تكليفية بيروقراطية أو انتخابية من لدن المخزن المركزي، وأن أي تحييد لهذا الدور يشكل خطرا على النظام من كل الأصعدة.

ويستمر الباحث في التأكيد بأن هؤلاء استفادوا من مسؤوليات جديدة، تمثلت في الإنابة الإدارية للسلطة المركزية في أوساطهم القبلية والتمثيل الجماعي والتشريعي في الجماعات الترابية ومؤسسة البرلمان، وكان لهذا الأمر دور فعال في نمو أنشطتهم الفلاحية وتوسيع أملاكهم العقارية التي استفادت من القروض، ومن الارتباط بالمجالات السقوية والدعم الكبير للدولة على مستوى توفير الأموال و البذور، فازدهرت الزراعة وتوسعت الأسواق و انتعش التصدير، دون الإخلال بالدور التقليدي للفلاح المغربي المتمثل في تموين السوق المحلي وتأمين احتياجاته والحفاظ على أسعاره، دون مضاربات ولا خصاص إنتاجي.

غير أن هذا الأمر، بدأ في التغير منذ العقدين الماضيين خاصة مع حكومة عباس الفاسي ووزيره في الفلاحة عزيز أخنوش واعتماد ما سمي حينها بالمخطط الأخضر القائم بحكم الواقع على التفريط تدريجيا في الزراعات المعيشية لصالح الزراعة الرأسمالية المستنزفة للماء وللتربة والضارة بمكوناتها، مستفيدة من أموال دافعي الضرائبن ميسرة لروادها السبل، حيث ظهرت فئة طفيلية ليس بينها وبين الفلاحة أي صلة، تمتهن الوساطة وتقتنص فرص الربح السريع دون أدنى اعتبار للأسعار التي دخلت نطاق التحرير الجامح، في غياب أي أثر على حال الفلاح المغربي الذي استمر ببيع منتجاته بأسعار زهيدة عجز معها عن تسديد فواتير ديون المخطط الأخضر المتراكمة، وغلاء الأسمدة وارتفاع تكاليف النقل والتخزين.

إن هذا الدور المتنامي لشركات السمسرة وكثرة الوسطاء واحتكار بيع البذور، قد أخل أيما إخلال بدور الفلاح المغربي وجعله الحلقة الأضعف ضمن الدورة الاقتصادية للبلد ككل. فلا هو بقي قادرا على تحقيق ربحه المعهود، ولا استطاع استعادة توازناته المالية وتوسيع أنشطته وتغدية السوق كما في السابق.

وكان من نتائج هذه الوضعية حدوث ارتفاع مهول في أسعار الخضروات والفواكه والحبوب منذ خمس سنوات على الأقل، وصل اليوم إلى مستويات غير مسبوقة ألهبت جيوب المواطنين والمواطنات وما فتئت تنذر بكوارث كبيرة تهدد الأمن الغذائي للمغاربة وتفتح الأمن القومي الغذائي البلد ككل على المجهول إن لم يتم تدارك الأمر.

فهل ترك المضاربون الجدد اليوم من أمل في رجوع الأمور إلى سابق عهدها وحماية سلة المغاربة من هذا التدهور الذي لحقها؟ وهل بالمحصة، ماذا بقي من مقولة “الفلاح المغربي المدافع عن العرش” من راهنية؟

* باحث متخصص في التاريخ الجديث والمعاصر

https://anbaaexpress.ma/l6mjx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى