آراءمجتمع
أخر الأخبار

الرجل الذي أتى بالعالم إلى أصيلة

مساهمتي في تكريم الوزير الراحل محمد بن عيسى 

سيصعب لمن عرف الراحل محمد بن عيسى أن يعطي شهادة موضوعية محايدة. فالرجل تعامل مع من عرفهم بصفتهم أصدقاء دائمين حتى لو تقطّعت سبل الوصل بينه وبينهم.

ولئن التقيته وقابلته وكتبت عن مسيرته مدفوعا بحوافز مهنية، فإن الوزير الراحل شرفني بترقيتي إلى منزلة الصديق، وربما المقرّب، أو هكذا تمنيت.

فلم يقبل مني أي اعتذار عن الالتحاق بمواسم أصيلة، متواصلا بشكل شخصي لإجهاض حججي وأسبابي التي كادت تحول بيني وبين الموعد السنوي.

علاقتي بأصيلة هي علاقة إنسانية مع محمد بن عيسى، وقد لا أخطئ إذا ما خاطرت بشكل يقيني بأن ذلك كان حال من عرف سي محمد وعرف أصيلة.

والحال إن ابن أصيلة تعمّد أن يكتب قصته من خلال مدينته، ومن أجل تلك المدينة. حتى أنه هام في حب بلده وعشق مسقط رأسه، بحيث ربما حلم أن تكون أصيلة يوما “عاصمة” من مدن المغرب، ومنارة أطلسية أرداها محجّا يفدُ إليه أهل الشرق والغرب كما أهل الجنوب والشمال.

حمل محمد بن عيسى المغرب في يومياته، لكنه حمل أصيلة في كل دقيقة. كانت المدينة تنبض بحياة استثنائية في “المواسم”، فيما كان عمدة المدينة يحمل المدينة خارج “المواسم” أيضا.

كانت الأرض كروية بالنسبة لهذا الرجل عاشق الدبلوماسية والثقافة الفنون، تبدأ من أصيلة وتنتهي بأصيلة.

حادثته ناقشته ساءلته. وفي كل مرة كنت استنتج أني ما زلت لا أعرف هذا الرجل، وأنه يمتلك من المعرفة نعم، والعلم نعم، لكن من الخبرة التي جناها بين العواصم، ما يجعله مرجعاً لا تملّ من الغرف مما خَبِر وعرف.

قارئ نهم. عرفت بأنه كان يقرأ مقالاتي، يعلّق عليها، يتساءل عن بعض مضمونها، ويسأل عنها حين تغيب. كان يقرأ لي كما يقرأ لكتّاب الدنيا بلغات متعددة من دون كلل. كان يناقشني في فكرة ارتكبتها أو معلومة أوردتها.

حصل أن يتصلّ لمناقشة محور يفكّر في أن تتناوله إحدى ندوات “الموسم” يوما ما. ولا عجب أن تلك الفكرة وجدت لها مكانا، حتى بعد سنوات، في مكانها المناسب في أصيلة وفي زمانها المناسب حين نضج زمانها.

لا يتسلى بن عيسى بالاستشارة واستدراج النصح، فستجد للكلام مكانته في مشروع الرجل وخططه التي لطالما كانت طويلة الأمد.

رغم ما عرفه في حياته السياسية والدبلوماسية، ورغم امتلاكه كنوزا من أسرار صناعة القرار في العالم وخفايا صراع الأمم، فلم يكن محمد بن عيسى يبخل في قول ما يمكن أن يقال والإيحاء بعبق ما لا يُقال.

حمله منصبه وزيرا للخارجية والثقافة وسفيرا لجلالة الملك إلى ولوج غرف مغلقة وجمع أسرار ومعلومات لم تخرج يوما إلى الفضاء العام، حتى عندما غادر مناصبه.

لكن توقه الدائم لفهم هذا العالم كان يدفعه لطرح الأسئلة عارضا معطيات قابلة للتداول كانت لنا جميعا زادا معرفيا يقينا انزلاقات الاستسهال والتسرّع في فهم هذا العالم.

لا سبب فوق العادة كان سيجعل من أصيلة مكاناً يكاد يكون كونيا، سوى أن واحداً من أبنائها حلم بها كذلك، فأرادها كذلك. هاجر محمد بن عيسى من المدينة طالباً ثم موظفاً في المنظمات الدولية. غاب عن مسقط رأسه غياباً متقطعاً دام 23 عاماً إلى أن قرر العودة عام 1976،

قال لي يوما: “فوجئت وصعقت حين عدت. وجدت المدينة متآكلة في حالة سيئة للغاية من حيث النظافة ومصاريف المياه من حيث البنية التحتية.

كان الماء الصالح للشرب متوفّراً لساعة واحدة في اليوم، ولجزء بسيط من المدينة. كان سكان المدينة يبلغ حوالي 19 ألفا. كان التيار الكهربائي ينقطع عن المدينة لمدة أسبوعين أو ثلاثة إلى غير ذلك”.

حين التقيته أول مرة قال لي: “لم يكن لنا بقعة أرض في العالم العربي يمكن أن نلتقي فيها مع الآخر. وإذا ما أراد العرب أن يعُترف لهم بإنجاز ثقافي كانوا يذهبون إلى مهرجان المسرح في أفانيون في فرنسا ومهرجان السينما في كان في فرنسا أو كان هناك سبوليتو في إيطاليا”..

هكذا ولدت فكرة “المواسم”. كان حلم الرجل الذي لم يكن عمدة المدينة آنذاك أن يجد مكاناً “يلتقي فيه العرب مع الآخرين، ويلتقي فيه الآخرون معنا، كما نحن، وليس كما يريدوننا أن نكون”.

يروي أن سعيه تعرّض لمضايقات في البداية: “لكن من أنقذنا في الحقيقة هو العاهل المغربي الملك محمد السادس. جاء عفويا سنة 1986، وأتتني فكرة أن أطلب من والده المرحوم الملك الحسن الثاني أن يتولى الرئاسة الشرفية الأمير محمد، ووجدت موافقة. وفّرت الرئاسة الشرفية للملك محمد السادس حماية لنا”.

عرفت الرجل مغربيا أصيلا عاشقا لبلده. من يتأمل البوصلة التي أدار بها “مواسم” مدينته يدرك الجهات التي أحاط بها مشروعه. أفريقيا حاضرة بقاماتها في السياسة والأدب والفنون.

دول الجنوب لا تغيب عن وجدانه مع الحرص على الوصل مع الشمال. عالمه العربي حاضر بشدة وتكاد ثقافة العرب الحديثة كلها تكون مرت من المدينة.

غير أن الوزير المندفع لاستقبال نظرائه من ساسة العالم وكبار الشخصيات الدولية، كان يبدو أكثر دفئاً في حضرة وجوه الثقافة والشعر والأدب ورفيقا للتشكيليين في مراسمهم في أصيلة.

حضرت موسم عام 2024. شاخ محمد بن عيسى. لكنه بدا حيويا حاضرا شغوفا مشرفا على كل التفاصيل كما عرفته أول مرة. لا أحد توقّع أن يغادرنا لم يكن في سمات الرجل وطباعه وخصاله ما تغيّر ويشي برحيل قريب.

حين أعلمني الصديق العزيز حاتم البطيوي، الذي حمل راية المواسم، بأن أزمة صحية ألمت بسي محمد. لم أقلق، وكأنني لا أريد أن أقلق.

غير أن حدسا سيئا أصابني حين لم يرد في آخر يوم من العام الماضي على رسالة التهنئة بالعام جديد.. لم يسبق لمحمد بن عيسى أن أهمل يوما ذلك.. وداعا سي محمد.

https://anbaaexpress.ma/kla0q

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى