تمهيد
صدر للبروفيسور أبو القاسم قور حامد، أستاذ الفلسفة والنقد المسرحي بالجامعات السودانية هذا الأسبوع كتاباً تحت عنوان: (الفلسفة الغربية والمذاهب المسرحية – مقاربة نظرية الدراما من التطهير إلى التحمل) عن دار الباسل للنشر والتوزيع بالقاهرة للعام 2025، وهو رجل السلام ومؤسس مركز ثقافة السلام بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا إلى جانب نشاطات ومؤلفات عديدة ومتنوعة في ذات الصدد.
فكرتي حول موضوع الكتاب
يجمع الكتاب بين الفلسفة والتاريخ المسرحيَيْن مثبتاً في نهايته نظرية بديلة لنظرية التطهير التي تقوم على التقليد أو المحاكاة للفيلسوف اليوناني ارسطوطاليس 384 ق م – 322 ق م القائلة: (حتى يحس المشاهد بالخوف والشفقة تجاه شخصيات المسرحية فيتطهر المشاهد ، ويعلم ويرعوي حتى لا يرتكب مثل هذه الأخطاء) ص 20، وتراه يمهِّد لعقل القارئ بخطأ تلك النظرية التي مرَّت عليها حوالي ثلاثة آلاف سنة فيقول من ص 21: (ولأنَّ عالمنا اليوم يعيش أحوج فتراته للبحث عن مكافحة العنف فالتخلص من العنف يعني البحث عن نموذج ونظرية درامية تنتقل بنظرية الدراما من خانة التطهير إلى خانة التحمل).
ويبرر الكاتب هذه الحوجا بمفارقة النظرية طريقها وهدفها الذي تكوَّنت من أجله فيقول من ص 20: (إن كان الهدف من الدراما هو تهذيب الروح والأخلاق والبحث عن وسيلة لتجنب العنف، وبما أن نظرية التطهير لم تعمل في هذا الاتجاه ، بل عملت على نقيض ذلك.. إلخ).
من هنا نشأت عند الكاتب فكرة مسرح السلام أو قل: ثقافة السلام التي من أجلها أنشأ “مركز السلام” بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا.
أنا هنا أقف على النقيض تماماً مما ذكر الكاتب والناقد القامة في أكثر من موضع وأنا على يقين إن لم تصب هذه المناقضة في قالب نص الكتاب فإنَّها تتناول جانباً آخراً في ذات السياق ذي الأثر المسرحي والدراما بشكل عام وهو “المسرح العربي أو المسرح عند العرب” وتأثيره على نظريتي التطهير والتحمل، مما أشار إليها من صفحة 21 حيث قال: (وهي مرحلة فوضى الادائيات).
الفلسفة المسرحية الشرقية
المسرح العربي أو المسرح عند العرب، وقد سبق وأن تحدَّثت عنها في كتابي “دوحة الأدب” بإسهاب لكن باختصار ههنا أقول: إنَّ نشأة المسرح عند العرب قديماً نشأ بالحركة التلقائية العفوية من مصدر ذاتي لأسلوب القصة أو الرواية عن مشهد معين في حياة العربي القديم ولم تظهر بشكلها شبه المقنن أو المعروف إلا في القرن الثالث الإخراجي في عصر الدولة العبَّاسية وتقول كتب السيرة – ابن هشام، ابن كثير وغيرهما – إنَّ هبَّار بن الأسود حين جاء يخبر قريشاً أنَّ محمداً قد خرج من بين ظهرانيهم قالها صاحب السيرة بأسلوب ماتع (قفز من على فرسه ولم يعبأ به من هول ما حمله من نبأ وأخذ يجثو على ركبتيه يحث التراب على وجهه ورأسه حثَّاً ويمزق جلبابه وهو يقول: خرج محمد من بينكم وأنتم تنظرون) أو كما جاء في الأثر من الخبر.
تجد الكثير جداً مثل هذه الأقاصيص تروى بأسلوب المسرح التراجيدي أو الكوميدي أو ما أشبه لكنه قطعاً أحد حركات الحياة المعاشة في أي عصر كان.
المسرح الأفريقي ويمكن الإشارة إليه من صفحة 130-131 بتجربة. (مركز السودان لأبحاث المسرح، في مجال التعاون مع المجموعات المسرحية الكينية مثل مجموعة أماني للمسرح الجماهيري 1998 والرابطة الكينية للدراما والتربية KDEA، وهي البدايات الأولى لهذه التجربة).
المسرح الأوروبي:
الموضوعات المسرحية ، تتلخص الموضوعات المسرحية من قلب المجتمع المعني وهو الذي أشار إليه الكاتب آخر الكتاب من صفحة 123 – 142 ما عناه بالمسرح التنموي أو فكرته حول نظرية التحمل بمعنى أنَّ موضوع المسرحية يتناول قضية أساسية مجتمعية من قلب النظام المجتمعي لا تخرج عنه بخارجة ولك أن تقول بالتخيل أو التوقع أو تطور الفكرة الدرامسرحية لدى المؤلف لكن من الواقعية المعاشة يخرج الإبداع الذاتي للجمهور في قالب كوميدي أو درامي أو تراجيدي أو خلافه.
بصورة أخرى، تحويل أو دمج الأداء المسرحي إلى درامي والعكس من كوميدي إلى تراجيدي وهكذا.
القصص والخيال (خيال الظل) هي أحد أوجه التنميط المسرحي، فلكلوري تراثي، عرض رقصي، موسيقي، وهنا موضع بداية ظهور خيال الظل في القرن الثالث الإخراجي الموافق السابع الميلادي ولك أن تجدها في العصر الحديث في كتاب “الأحاجي السودانية” للأستاذ البروفيسور عبد الله الطيب، في طريقة كيفية رواية التراث الشعبي السوداني الذي يحمل الكثير من المضامين الذاتية والمواضيع الحياتية سواء اختلفنا أو اتفقنا حول منهجية السارد في كتابه لكنه زيادة على حمله فنَّاً أدبياً خالصاً إلَّا أنَّه في ذات الوقت يحمل قِيَمَاً تربوية للمجتمع التقليدي المحافظ قبل ثورة الانترنت أو الثورة الرقمية التي غيَّرت من واقعية التقليد والمحاكاة الأرسطوطاليسيه إلى التخيل أو “خيال الظل” بأحد الوجوه.
القضايا الإنسانية في المسرح الإنساني، وهي نقيض نظرية التطهير مثل الجريمة المنظمة والمآسي وفن وثقافة المسرح الغربي التي فنَّدها الكاتب في مائة وسبعة صفحة (16 – 123)، وأعني بناء مسرح السلام تجد تلخيصها آخر هذه الكلمة الذي يطرح فيه المؤلف فرضيته أو قل نظريته.
دعني أسأل الكاتب سؤالاً هنا: هل فكرته المتحورة في بناء ثقافة السلام والتعايش السلمي الإنساني العالمي هي مجرد أطروحة أم فرضية أم نظرية في ظل اعتمادها منهجاً علمياً حسب ما تجري عليه العادة ؟.
هل مرَّت فكرته بالمناقشة والمعالجة والتجريب من قبل مؤسسات علمية معترف بها أم هي مجرد أشواق يهتاجها الكاتب ويستدعيها ليحولها من شرح وتفنيد وتلخيص لنظرية المسرح التطهيري ؟.
أنا سألت هذا الأسئلة لأنني وجدت أن عليه عكس ما كتب أو قل يفرد لها كتاباً منفصلاً إذ كل فصول الكتاب تتكلم عن تفنيد نظرية التطهير ووجوب إيجاد بديل لها من طريق التحمل حيث أراد لكن حين دققت النظر في وجوب وجود احتياج الفكرة ذاتها إلى مزيد من التفصيل والشروح والتدليل بادر ذهني لتلك الأسئلة.
أقول: كان يجب على الكاتب طرح فرضيته بذات النمط الذي انتهجه في التعريف بالنظريات الغربية للمسرح الاغريقي القديم مقابل إثبات أحقية النظرية أو الفرضية التحمل إلى حيز القبول والمناقشة والتجريب لتكون نظرية علمية أكاديمية منهجية مسجلة في الدوائر العلمية ذات الاختصاص، هذا ما بد لي.
الحوار والخروج عن النص لزيادة الإثارة والتشويق والتعريف، يمكن أن تضاف إلى السيناريو المتفق عليه إذا صعب على المتلقي فهم أو قبول المشهد المعقَّد المراد ابرازه، وأذكر خروج بعض المسرحيين فيما ذكره الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب في كتابه “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها” إلى خروج الممثلين عن النص أثناء أداء مسرحية لشكسبير إذ أوقف الحوار وأُخذ بالشرح ثم تواصل الأداء.
ذات الفكرة تجدها مبذولة في الكتاب من صفحتي 134 – 135 قال: [المعرفة العميقة بمكنزيمات الثقافة لدى المجموعات البشرية المستهدفة ببرنامج ثقافة السلام والقدرة على تحليل تلك الثقافات وارجاعها إلى عناصرها الأولية] ص 135 تحديداً.
المسرح المصري والسوداني هنا أعني عملية الموازنة بين الفلسفة الغربية والمذاهب المسرحية والفلسفة العربية للاتجاهات الفكرية المسرحية من مسرح المعقول واللامعقول العبث أو اللامنتمي وخلافه وكل أنماط المسرح الإنساني لتجد أنَّ الأخير قد أفنى وفنَّد تماماً تلك المذاهب الغربية التي بذل فيها المؤلف جهداً غير منكور بخلق لا موازنة فحسب بل خلق متجدد ومتطور لحركة الحياة البشرية نفسها في إطار المتغيرات الفلسفية العالمية استفادة واستناداً على التجريب والتطور مما – في تقديري الشخصي – لم يكن يحتاجه الكاتب فيما أورده من فصول تجاوزت المائة وسبعة صفحة.
حين قال أول الكتاب: [لكن من الواضح ليس العنف وتكنولوجيا الحرب وحدهما هما الأصل في موت نظرية التقليد بل هناك عواملا كثيرة تضافرت تاريخياً وميكانيزمياً كي تفقد نظرية التطهير جدواها] ص 17 ولك أن تقرأها من صفحة: 16 – 19 لتجد أن الموازنة في حد ذاتها غير قابلة للتوازن.
لكن، بكل تأكيد ،إنَّ دور المسرح العربي المتمثل بالتحديد هنا تركيزاً على تجربتي السودان ومصر قد غيرتا كل القديم من الفلسفات الغربية القديمة، أبعد من ذلك، بصورة مستمرة تتطور وتتداعى الأشياء والأحياء للقضايا الحيَّة التي تلح على العرض الجماهيري مما لا يكاد أحد يسمع بفاعلية أو جدوى نظرية التقليد أو التطهير هذه إلا في أُطُر التخصصات العلمية الأكاديمية مما يستدعي مراجعتها اليوم بشكل سريع واسعافي.
انظر إلى المسرح المصري وتجربة الزعيم عادل امام والفاضل سعيد وتجربة الأستاذ الفنان ميسرة السراج في المسرح السوداني ، ودريد لحَّام من سوريا لترى تلك الصور المبنية على بث قضايا ثقافة السلام المجتمعي بأشكال وسيناريوهات متعددة ومختلفة منا يخلق عندي نوعاً من التوازن الفلسفي لفكرة بناء المسرح التنموي بأنماط قوية ذات أبعاد مجتمعية راسخة في المجتمع المعني.
المسرح عند شكسبير لم أجد تأثير مسرح شكسبير على المجتمع الغربي أو الأوروبي مطروحاً في الكتاب، وهو بكل تأكيد له دوره الفاعل القديم المتجدد في التقليد الأسلوبي ذي البصمة الخاصة مما يعد طفرة فلسفية بكل المقاييس غيرت من التنميط الأوروبي وأفكاره وحياته أليس هذا من ثقافة السلام يا بروف؟
هذا ! تقوم فكرة النظريات العلمية الفلسفية الحديثة على عكس الواقعية التجريبية بدلاً عن الخيالية أو التوقعية فهي مأخوذة من صميم المجتمع لعكس فكرة الكاتب المسرحي والدرامي نحو ثقافة السلام وحلحلة القضايا الإنسانية من وجه نظره الخاصة إما بتخصص أكاديمي أو موهبة تأليف لكنهما مثبتتان حاق المنهج المطور للواقعية وتجدههما في المسرح المعاصر.
أقول: هل ما زالت “فوضى الادائيات” قائمة أم انتهت بتجريب المسرح المعاصر حين قال في صفحة 21: لا زال بعض المسرحيين الأكاديميين وغيرهم من الهواة حبيسين الصواب: حبيسي بحذف النون النمط الدرامي المسرحي الغربي الذي يقوم على التمثيل والتقليد اللذين صيرهما الزمان تراثاً إنسانياً رائعاً في ظل الثورة السبرنية.
أرى أن هذا غير وارد في المسرح المعاصر إذ الواقعية التجريبية تقول غير ذلك.
مقترح فلسفي جديد:
لا بد من العزوف عن ارسطوطاليس وسقراط وارسطو وكل فلاسفة اليونان القديمة لعدم موافقتهم ومعايشتهم للواقع الإنساني اليوم المعاصر فبيننا وبينهم أمداً بعيداً وقروناً طوالاً، وكذلك كل الفلاسفة والمفكرين والمثقفين العرب والغربيين فهم ظاهرة إنسانية تخطَّت حاجز الزمان والمكان مع كل التقدير والاحترام لما بذلوه في سبيل المعارف الإنسانية ودورهم الطليعي، ويجب دراسة الفلاسفة والمفكرين والمثقفين العرب والغربيين المعاصرين لتقارب الزمان والمكان بيننا وبينهم لاستيعاب أكبر للطاقات البشرية بعامة فلكل زمان رجال ولكل مقام مقال.
مما لا شك فيه أنَّ تجاربنا الأدائية اليوم في مسرح الحياة بعامَّة ستنتهي بعد خمسين سنة أو قرن واحد على الأقل لذات الأسباب السابقة من تباعد حيزي الزمان والمكان بيننا وبين الأجيال القادمة بمفهوم التطور في كل المجالات الحياتية واختلاف القضايا المعاصرة من المستقبلية وهكذا دواليك.
وهل هناك أكبر وأدل من مسرح الحياة التي كلنا فيها ممثلون بشكل من الأشكال؟
خلاصة:
طرح الكاتب فكرته ونظريته حول المسرح (نظرية التحمل) من صفحة 123 إلى صفحة 141 يعني 18 صفحة فقط وإليك تبسيط فكرة ثقافة مسرح السلام حيث أراد المؤلف:
المسرح التنموي: (اتجاه المسرح الغربي إلى البحث في العروض performance الشعبية وتوظيفها كوسيلة للتحول الاجتماعي المطلوب) صفحة 124.
إحداث تصميمات درامية بوعي فلسفي وثقافي من أجل التغيير الاجتماعي الثقافي Dramatic Design For socio-culture Transformation هي ذات فكرة المسرح المعاصر بالعموم لأنَّها تتناول ذات القضايا ذات الطابع العنيف وتحويلها إلى قالب ثقافي نحو التعايش السلمي الإنساني العالمي بصور وأنماط مختلفة إن لم تكن كلها فأغلبها كذلك.
بمعنى إنَّ المؤلف بعد استعراضه لنظرية التطهير التي في تقديري ماتت منذ المائة سنة الأولى لموت صاحبها ومن واقع الحياة السودانية ذات الطابع العام للعنف المجتمعي ومن واقع المسؤولية الفردية تجاه المجتمع فإنَّ داخل تخصص الكاتب الأكاديمي أبدى عرضاً لنظريته “التحمل وقبول الآخر” من واقع معاش وأكاديمي مهني متخصص للتعايش السلمي بين الجميع.
هذه فكرة رائعة وجديرة بالاحترام والتقدير بلا شك لكننا نحتاج إلى تفعيلها في قالب درامي اجتماعي كوميدي ضخم يعكس مفهوم ثقافة السلام بديلاً عن ثقافة التطهير والعنف لتغيير المشاعر الإنسانية والأخلاقية والعادات والتقاليد والأعراف من حروب أهلية وقتال لأتفه الأسباب إلى حياة كريمة وبداية النهاية لتحرير الإنسان من الظلم والتفكك إلى بحبوحة السلام أحد مرتكزات الفكر المعاصر والفلسفة والمنطق السليم.
إنَّ نموذج “المسرح التنموي” أقرب لفكرة مسرح الشارع الذي يتشارك الجميع فيه بالأداء والتنميط والروح والفكرة ووحدة الموضوع والشعور، والله أعلم، وهي ذات المناطقية المستهدفة التي ترتكز على المفاهيم الثقافية والاجتماعية، راجع صفحة 135.
أسس “نظرية التحمل” مسرح السلام التنموي:
1/ نبذ العنف.
2 / احترام الحياة بكل أنواعها.
3 / الاصغاء سبيل التفاهم.
4 / التحمل والتشاطر والعطاء.
5 / صون كوكبنا.
التلخيص باختصار شديد
تحويل نظرية التطهير لأرسطوطاليس إلى نظرية “قبول الآخر” فن التعايش الممكن مما طرحه الكاتب باسم نظرية التحمل وهي عينها ما نعانيه نحن في السودان، الأحادية ورفض الآخر وخطاب العنصرية والكراهية التي أودت بحياة الشعب السوداني إلى التهلكة وآية ذلك الحرب الدائرة هناك منذ عامين اثنين والله المستعان.
أهم المراجع:
1 / كتاب: السيرة النبوية لابن هشام ، 1985 – 1987.
2 / كتاب: الفلسفة الغربية والمذاهب المسرحية للأستاذ البروفيسور أبو القاسم قور حامد، طبعة الباسل للنشر والتوزيع بالقاهرة 2025 يناير.
3 / كتاب: المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ج 1، للأستاذ البروفيسور عبد الله الطيب، طبعة الحلبي بالقاهرة 1955.
4 / كتاب: الأحاجي السودانية، للأستاذ البروفيسور عبد الله الطيب، دار جامعة الخرطوم للنشر 2005 -2018.