آراءمجتمع

جدلية الحوار.. أبعاده ونتائجه

نظرة على ما نملكه من إرث تاريخي في كل حقول المعرفة والعلم، سوف نلحظ حضور الحوارات ذات الطاع الجدلي بكل مستوياتها كانت حادة أو مرنة أو حتى أحيان لا تتجاوز ملامسة قشور القضايا ذات الشأن المشترك، بين أرباب الاختصاص والمجتمع بصورة عامة.

ولعل بدأ تشكل الحوار مع بدايات الاختراعات العلمية كالطابعة، والراديو، والتلفاز وتقنية البث المباشر عبر شاشات التلفزة، وصولاً إلى ما نحن عليه من التقدم العلمي الذي جعل من الحوار وجبة يومية على مدار 24 الساعة عبر مُختلف وسائل الإعلام المعاصرة، حتى أصبحنا نواجه طوفان من المعلومات التي تُقدم في كثير من الأحيان دون أي تدقيق أو تحقيق في صحتها، فضلاً عن فهم أسباب نشأتها ولماذا البعض يتبناها فيما البعض الآخر يرفضها بشكل كلي.

نتساءل عن مُنطلقات الحوار في أصلها قائمة على الإقناع أم هو إيضاح عن دوافع تبني المعلومات والأفكار؟ لماذا أصابنا العجز على فهم أدبيات الحوار؟ لماذا تُصبح الأفكار والمعلومات التي يتم تداولها أثناء الحوار، أدوات كراهية مُستخدمين بارود الألفاظ العنيفة، والتي تدفع إلى القطيعة سواء كانت إلكترونية كالحظر أو حتى رفض الحوار والتعاون المشترك بين أبناء التراب الواحد؟ بكل تأكيد نحن لا يمكن التحدث عن حوار بين شخص، يرفع السلاح في وجهك لأن هذا لا يُريد حوار، بل يريد أن يسلب منك حياتك.

مفهوم الحوار

حينما تم إصدار أول صحيفة، وبعدها جاء المذياع والتلفاز والبث، كانت الحوارات في الدوائر الضيقة نخبوية، وبين المسؤولين في الحكومات بعيداً عن أعين المجتمعات ومراقبتها إلى الأضواء، والاستماع لما يدور في الغرف المغلقة أو حتى ما قبل البث المباشر، أو ربما حتى التسجيل في الأستوديوهات، و لهذا لم يكن يوجد مناهج تعليمية تتعلق في طرق الحوار وأساليبه وما إلى ذلك من تفاصيل تتعلق في الحوار.

بل حتى البيئة الأسرية في المجتمعات لم تكن تألف مفهوم الحوار أو حتى حق السؤال حول فكرة ما أو معلومة، كانت ثقافة الصوت الواحد، والرأي الواحد، والعقل الواحد هو السلوك السائد على مدى قرون من الزمن.

يتحدث رجل أكاديمي متخصص في علم النفس التربوي عن تجربته حينما أجاب على سؤال التالي: ” برتقالة زائد تفاحة ما هي النتيجة “؟ رفع يديه وجاوب وكان كف يد معلمه هي الهدية لأنه قال: “لا يمكن جمع التفاحة والبرتقالة لأنهما ثمرتين مختلفتين”.

فماذا لو حلقنا في خيالنا حينما يتعلق الأمر في قضايا شديدة الحساسية ومن شدتها لا يُسمح حتى في محاولة طرحها في الدوائر الخاصة، ولسان الحال الحوار هو أن تؤمن إيمان كامل بكل ما سوف تسمعه وخلاف ذلك لا حوار معك.!

تلك السيناريوهات الحوارية التي في الأعلى ونسمعها ونقرأ عنها يومياً وكأن إنسان هذا العصر لا يُريد أن يتقدم خطوة واحدة اتجاه فهم أبجديات الحوار، مما يُحدث تفاقم واستمرار في العديد الأزمات وهذا ما يُفسر انتشار الكراهية في الأوساط الاجتماعية، وحتى بين الحكومات والدول، تُصبح فلسفلة الحوار ذو أهمية كُبرى في المجتمعات النامية مما لها من انعكاس على تقدم وبناء الدولة.

إن فلسفلة الحوار فعل معرفي تراكمي يتكئ على المراجعات في أصول وقواعد مناهج المعرفة والتي من خلالها تتقدم الأمم وتزدهر.

الحوار الناجح

حتى نصل إلى حوارات ناجحة وبناءة نحن بِحاجة إلى أن نسأل أنفسنا لماذا نبدأ الحوار؟ هل نحن نُريد أن نصحح أفكارنا؟ أم نُريد من تلك الجهات أن تفهم مطالبنا أم هو حوار معرفي وثقافي، نؤسس من خلاله علاقات اجتماعية تُساهم في نهوض المجتمعات؟ هذه الأسئلة وغيرها هي بمثابة إجابات غير نهائية لا تهدف إلى إخراس التفكير، بل الغاية منها أن نخلق حوارات صحية قابلة إلى التطوير والاستمرار فنحن البشر كائنات نُعري ضعفنا العلمي والمعرفي من خلال لغة الحوار والمجتمعات التي تمتلك إدراك بأهمية ممارسة الحوار هي أكثر قُدرة على تجاوز العديد من التحديات والأزمات، وبكل تأكيد لا يوجد حوار ذو اتجاه واحد لأنه بالنتيجة يُلغي حقيقة الحوار.

الإنصات الهادف لفهم ما يقوله الآخر هو أحد ركائز الحوار المُمتلئ بالإيجابية، والذي يفضي إلى علاقات اجتماعية صحية، أم إذ كان الغاية من الإنصات هو مُهاجمة الآخر الذي نختلف معه فهو إعلان لفشل الحوار.

نتائج الحوار

من أخطر وأكثر الأخطاء التي تحدث حينما يتم البدء في الحوار، هي الأحكام النهائية المُسبقة والتي تعني إعطاء حكم نهائي على فكرة ما أو معلومة ما قبل بدأ الحوار مما يقتل الحوار ذاته ويفقده قيمته الجوهرية، بينما خلق مساحة من التخطئة يُتيح لكل الأطراف في رؤية وفهم القضية التي يُراد فهمها كما هي.

ولهذا شاهدنا على الهواء مباشرة عبر قنوات فضائية إخبارية الكثير من الحوارات، التي وصفت حوار الديكة، بل حتى تحولت بعض برامجها إلى سرك يتفرج عليه الملاين التي ترى كيف أن كبار نخبتهم الثقافية والسياسية تحول أستوديوهات البرامج إلى ساحة معركة وشتائم تُشعرنا بالخجل، أن تصدر من مواطن يتعلم أبجديات الثقافة فما بالنا ونحن نسمعها من قبل نُخبة النخبة الثقافية والفكرية والسياسية؟ وبكل يقين هذا لا يعفي مسؤولية مقدمو البرامج الحوارية على تنوعها فهم أيضاً طرفاً في هذه النتيجة، من خلال الفشل في إدارة الحوار أو رُبما طبيعة البرنامج القائم على وضع التناقضات الحادة جداً على طاولة الحوار وإذا ما كان الضيوف تتمتع بصبر وحكمة في فهم طبيعة البرنامج ومُقدمه بكل وضوح سوف نعرف نتائج الحوار قبل أن يبدأ.

وهنا نموذج في زمن ما عُرف بالربيع العربي عن خطاب رئيس اللجنة العربية لحقوق الإنسان د. هيثم مناع ومما جاء فيه: “الحوار كالسمك لا يعيش بدون ماء، والماء هي الظروف الطبيعية لأي حوار، أي احترام الشعب ورفع السلاح عن الرقاب وتبييض السجون ومباشرة التحقيق في كل الجرائم بحق كل الضحايا وأبعاد الأيدي الملوثة بالدم عن موقع القرار، بانتظار حكم القضاء العادل، وبدون هذا الحوار هو تنفيذ للضحية لبرنامج قامعها”.

إذا أين أصبح المواطن الذي كان ينادي ليل نهار من أجل خلق بيئة طبيعية وصحية للحوار من أجل تحقيق ما يصبو له؟ والسؤال هنا لا ينبغي أن يؤطر جُغرافياً، بل هو عابر للقوميات والأديان وكافة المعتقدات بما فيها تلك الشخصيات التي تمتلك أحزاب وتنظيمات.

هل لهم مُساهمات حقيقية في خلق ظروف بيئية للحوار؟ وماذا بعد الحوار؟ هل من قوى حقيقية تلزم كل الأطراف المعنية في تنفيذ التوصيات؟ هذا إذ ما قلنا إن الحوار نتج عنه توصيات.

حسناً لنغوص في أعماق الحوارات اليومية عبر منصات التواصل الاجتماعي وبالخصوص تلك ذات الطابع الجدلي، هل يوجد توصيات حقيقية لما بعد الحوار؟ وهل التوصيات هي محاولة تأثيث للحوار؟ لماذا تضيع عشرات الساعات يومياً في حوارات لا تصنع فارق في حياة البشر؟ هل هؤلاء مؤهلون للحوار أم هم دُخلاء على العلم والمعرفة؟ ألم تصبح منصات التواصل الاجتماعي مسرح عالمي مفتوح على مصارعيه؟ إن أكثر ما يندم عليه الإنسان هو فقدان الوقت أو ضياعه فيما يعتقد أن هذا الحوار أو ذلك سوف يرفع من مستواه المعرفي والعلمي.

ليكن الحوار وجبتنا اليومية ولكن دون أن نُصاب بالتخمة، نحتاج إلى التنظيم حتى لا نًصبح في مهب الفوضى المعرفية والعلمية التي تعصف بنا كل يوم.

https://anbaaexpress.ma/j489a

هاني العبندي

كاتب صحفي سعودي مقيم في أمريكا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى