بقلم : طلعت قديح
شاعر وناقد أدبي من فلسطين
أجمل الشعر هو الذي تشهقه، يتغلل في وجدانك حتى يفصح عن نفسه بقولك: آآآه
وكأنك تستمع لـ “طقطوقة” تلسع ذائقتك، وتذهب خلف المعنى لاستدرار الخيال المُتناغم مع الفكر، وهذا يحيلنا إلى علاقة طردية ما بين الجمال المتذوق والوعي لقيمته من خلال إطار متعدد في دلالاته، لأوجه الجمال.
“أثر”
لم يبق على السرير
أي شيء منك . .
لا رائحة عطرك الممزوج بدخان سجائري
ولا لعاب قبلاتك الذي رسم حدود جسدي
حتى قطرات الندى التي فاضت بها مساماتك
كان جسمي شربها في الصباح
لم يبق أي أثر منك
إلا أنا . .
هذا الأثر في طياته حس صوفي ضمن ثلاثة محددات مادية، ليس بالمعنى السائد، بل في تركيبية النص:
1-الحلول
2-الاتحاد
3-حالة توافقية بين الحلول والاتحاد.
ظاهر النص تشابك الزمان والمكان وتفاعلاتهما، مشهد ليل في ظاهره؛ شقّ استباق الفعل بـ “كان جسمي شربها في الصباح”، فأضحى صورتين في متخيل لأثر كان.
ولنراود هذا النص بتأملات المعاني الرائقات التي لا نريد الشطط أو عرض شطحات يمكن أن توصف، إلا أننا نعرض ما نرى من مآلات وتصور بناء النص.
بعض النفي إدلال على الوجود غير المرتحل عن المكان أو الممارسة، وهذا ما أراقته الشاعرة “ماري جليل” في صورة المتخيل، وكأن اتحاد الذِّكر في قولها: ” لا رائحة عطرك الممزوج بدخان سجائري” في حقيقته استقدام للأثر، ومثوله ارتقاء في جمالية الصورة المدركة.
فالإحساس المشترك هو “استنشاق” لشيء مرئي ملموس “دخان سجائري”، وأخر محسوس “رائحة عطرك”، لكن الأثر في هذا المزج لحظي في رؤيته، بيد أنه مستمر في تتابعه في فعل الأساس للأثر اللحظي “نشوة الذاكرة”.
وفي إطار جريان “الأثر” تتمدد جمالية أخرى في قولها:
” ولا لعاب قبلاتك الذي رسم حدود جسدي”، وهنا انتقل الفعل من “الاستنشاق” إلى فعل “الإغراق”.
فما كان لفظ “اللّعاب” إلا دلالة على فعل استمرار في القبلات؛ أوجد فورانا في فعل “الحميمية”، وهذا ما نذهب إليه في إنتاج الصورة.
ولعلنا نروح إلى المصطلح الفلسفي في التفرقة بين معنييّ “الجسد” و”الجسم”، فنرى أن ” رسم حدود جسدي” يقتضي بالضرورة سكون الجسد وهدوءه؛ ما يساعد على إتمام فعل “رسم حدود”، وأما الجسم؛ فلا يقاس إلا في حالة التفاعل، مذكّيا هذا المعنى في النص بالقول: ” كان جسمي شربها في الصباح”!
ثم يأتي حرف “حتى” كحرف عطف يتشابك في النوع والفهم، فيمكن إيجاد موقعها بالابتدائية الجملة، بالوصف المتتابع ” كان جسمي شربها في الصباح”، وتذهب أيضا إلى أن تكون عاطفة، وذلك لاتخاذ “قطرات الندى” اسما ظاهرا!
أو أن هناك صياغة متخفية وراء الكلمات بالمباشرة في جعل “حتى” بمعنى “إلى”، كأن يكون المعنى المراد (إلى قطرات الندى التي فاضت بها مساماتها التي شربها جسمي هذا الصباح)!
وتأتي كلمة “جسمي” للدلالة التي أشرنا إليها في أن دلالتها هي التفاعل والنشاط لا السكون.
“لم يبق أي أثر منك
إلا أنا “. .
وهنا تتكون حالة من إثبات المزج بين الحلول والاتحاد.
في هذا النص يبرز إعادة إنتاج المشهدية الابتدائية في صورة الوصف الخاتمة، وعليه فإن تشكيل الصورة ضمن استخدام التجسيد والتجسيم، ولو بقدر ما؛ محاولة لإيجاد خطاب بصري في قولها:
” لا رائحة عطرك الممزوج بدخان سجائري
ولا لعاب قبلاتك الذي رسم حدود جسدي
حتى قطرات الندى التي فاضت بها مساماتك”
وتوسطه ضمن الخطاب اللغوي والذي عبّر عنه بخطابين مشكّلين جماليا في :
” لم يبق على السرير
أي شيء منك . .”
و
” لم يبق أي أثر منك
إلا أنا . .”
حتى إن عنوان النص “أثر” يحمل دلالة تكثيفية للنص، فالأثر هو العلامة، والخبر، وهو البقية، ولنا أن نتخيل المغزى ضمن كينونة النص نفسه.
وفي مكانات أخرى من منتج الشاعرة ماري جليل الأدبي؛ نرى نص “كونشرتو الثلج في المنافي”:
“على مساحة صدرها
بياض شاسع
أكثر من المعتاد
النهار أهدابه قصيرة
لدرجة تختفي معها
كل الألوان . .
هنا
الأمر واضح كالثلج
العيون
لا ماء فيها
مسمرة كالزجاج
الوجوه ملطومة بالريح
مجروحة بالبرد
تركت ملامحها
في أماكن دافئة
جاءت تنتظر على أرصفة
امتدت مرايا
لزلة قدم
لموت ممكن عند أول انحراف
هنا
الزمن لا وقت لديه للانتظار
الدقائق تسير مضرجة بالدماء
تسيل كالسم في أوردة المدينة
حتى تجف الحياة فينا
نتحول إلى جماد . .
بانتظار خفقة قلب دافئة
تعيد النبض
إلى شريان الحقيقة.”
تتشكل أجزاء الكونشرتو هنا عبر ثلاثة مقاطع يفصلها اسم الإشارة “هنا”، وكأن دلالتها هي القطعة الموسيقية المؤلفة، وقد كان التنوع المشكل في النص بالمكان والزمان والصورة، بما يتوافق مع اللفظ الفرنسي “الكونسرفاتوار” بمعنى (الجهد والنشاط).
هناك حضور مفعم بالصورة في هذا النص ضمن بنية إيقاعية منتظمة، تهدأ عند انتهاء الحركة الأولى في “هنا” ثم تبدأ بالتفاعل بعد ذلك.
وفي مكان آخر نرى الصورة التمثيلية في نص “الليلة”:
“سأتركُ البابَ مفتوحًا
وأنتظرك . . تعال.
تعال
بلا ظلٍ إن شئتَ
كي لا تحفز الضوء
على وجنات الأزهار صباحًا”
حيث يمكن التعبير عن هذا المقتطف بالارتباط الجمالي الوجودي بمحددات نفسية وجمالية وفكرية . . .
وفي نص “نشوة الانتظار”:
“بيدين حافيتين
وجبين أبيض
أقف ملتصقة
بزجاج نافذتي
-أتحسس-
الحياة
أحاول أن أسمع
ضحكة عصفور
بللته حكايات المطر
كي أعبر …
لكني أبتعد
بخطوات
متواطئة
كل ما يثيرني
المكوث طويلاً
في نشوة الانتظار”.
حيث تبدأ الحالة في نسق متفاعل مع الصورة والحركة لإثبات البعد النفسي للذات .. عبر تعدد الصور:
– ضحكة عصفور
بللته حكايات المطر
– بخطوات
متواطئة
-أتحسس-
الحياة.
قد يمثل هذا النص احتجاجا على الصراع الداخلي للتعامل مع الحياة بطريقة فلسفية ذهبت إلى وصف فلسفي غائر في مجال الإحساس “نشوة الانتظار” في تقابل مثير بين “النشوة” الارتقاء وبين “الانتظار” التوتر.
وفي خضم ديوان الشاعرة “ماري جليل” نشاهد امتداد الصراع الحاصل بين الذات وبين أطروحة الحياة، ومن ذلك:
“لا يتساقط في (كندا) الآن
سوى قلبي!
متجمدًا أمام مرايا الانتظار.”
وقد كان الترميز جليا في نصوص الديوان، فعمدت الشاعرة إلى استرفاد أفق واسع في التشكيل المتعدد للنص.
فنرى تتابع الاحتمالات في نص “حروف عارية”:
“على أسوار صدري الجارحة
تنهيدة مصلوبة بين مرتفعين
تنتظر يدًا عاشقة
تفك عنها الحصار
تلك المجدلية
الهائمة في فجور جسدك
المعلق على خشبة الخلاص
تلك التي مسحت بشعرها
الذهبي استغاثة آلامك
وعالجتها بنفحة روح عاشقة.”
وفي نص “بريد فارغ”، نرى إيقاعا أخرج رتابة البدء إلى توظيف القفلة لخلخة الشكل المعتاد في:
“الرجل
الذي شاركتُه
عطر أنفاسي
ذات مساء
لم يأتِ
ليشاركني
قهوتي
هذا الصباح
بل أرسل
غيابه
في
ظرف مثقوب
علقه
ساعي البريد
على باب قلبي.”
قد تكون الشاعرة قد فرضت في قفلة النص حبكة النتيجة، ضمن مسار بتشكيل صيغة أدبية لا تذهب إلى التقريرية.
إن مقتطفات النصوص في “ملاك على هيئة رصاصة” تجعلنا نذهب إلى عدم استقرارية الروح لدى الشاعرة رغم استقرارية المكان.
وما انتفاء استقرارية الروح إلا إعلان الصراع ما بين التوتر والتوازن، لكن الأكثر تأثيرا هو التوتر! والتوازن ليس إلا طارئا يكون في حالات الصفاء أو النشوة الفكرية.
وما كان التوتر إلا حضورا لحالة الاغتراب والانفصال عن المكان رغم الاستقرار فيه؟
وعلى الرغم من هذا فإن استعلاء الذات ومحاولة إقامة وعي مثقف هو ما يجعله مصدًّا حقيقيا لحالة الاغتراب.
وتحويله من شعور الألم إلى شرفة للروح من خلال تأملات الحياة والذات والكون.