فى الثالث عشر من شهر نوفمبر الفارط حلّت الذكرى الثانية والعشرون لرحيل محمد شكري (من مواليد 15 يوليو 1935 – والمتوفّى فى 15 نوفمبر2003)، وبهذه المناسبة أعددنا دراسة موفية وضافية عن هذا الكاتب الغريب الذي أضفى بصمة خاصّة لا تمّحي فى جسم الأدب المغربي الحديث.
حيث رأينا فى الجزءين الأوّل والثاني من هذه الدراسة حيثيات ووقائع وأخبار لقائي بالكاتب محمد شكري أوائل السبعينيات من القرن الفارط، حيث جمعتني به الصدفة على متن قطار بطيئ الرابط بين مدينتي طنجة والرباط، ورأينا كيف حكى لنا أنه انتقل مع عائلته فى ظروف صعبة وقاسية من قريته الريفية النائية المغمورة (بني شيكر) إلى حاضرة طنجة المدينة الدولية آنذاك المشهورة وهو بعد فى مقتبل العُمر.
ورأينا فى القسم الثاني من هذه الدراسة كيف استقبل النقّاد والدارسون ومعهم القرّاء أعمال شكري الإبداعية وبشكل خاص راويته الشهيرة (الخبز الحافي)، ونشرنا فى هذا القسم تعاليق ضافية عن هذا الموضوع كلّ حسب رؤيته ومنظوره النقدي التمحيصي لهذا الكاتب المعنّى.
وفى القسم الثالث والأخير من هذا المقال المطوّل سوف نعالج بإسهاب بعض ما كتبه شكري عن الكُتّاب الأجانب الذين كانوا يعيشون فى طنجة عندما استقرّ بها وهو بعد في شرخ الشباب، غضّ الإهاب، طريّ العود، أمثال الأمريكي بول باولز، والفرنسي جان جينيه، والأمريكي تنيسيي ويليامز، ووليلم بوروغس، وألن جينسبيرغ، وترومان كابوتي، وكيرواك، وغوري بيدال وسواهم، فنقول:
بول باولز وسواه من نزلاء طنجة
الترجمة الإسبانية لكتاب “بول باولز وعزلة طنجة” للكاتب محمّد شكري – الذي احتفلت به عند صدوره الأوساط الأدبية فى المغرب وخارجه – كانت هذه الترجمة الإسبانية قد صدرت عن دار النشر الإسبانية (كاباريه فولتير) بمدينة برشلونة، ويدور كتاب شكري حول هذا الكاتب الأمريكي الذى عاش فى هذه المدينة منذ وصوله إليها عام 1947 والتي ظلّ بها إلى وفاته عام 1999 (أنظر مقالي حول هذا الكاتب فى “القدس العربي” تحت عنوان بول باولز.. عاشق طنجة، العدد 7144 الإثنين 4 يونيو 2012).
يشير الكاتب الإسباني “كارليس خيلي”: “أن محمد شكري يأسف للسطحية التي عالج به بعض الكتّاب صورة مدينة طنجة، والأدهى والأمرّ من ذلك الإحتقار والكراهية، والعنصرية، التي ينظر بها هؤلاء الكتّاب إلى السكان البسطاء فى هذه المدينة”.
وقد علّق شكري عن ذلك بقوله: “أيّا كان من هؤلاء الكتاب يقضي بضعة أسابيع فى طنجة يمكنه أن يؤلّف كتيّبا عن هذه المدينة”!.
ويرى الكاتب الإسباني من جهة أخرى: “أن كلاً من كابوتي، وجنسبيرك، وكيرواك، وغوري بيدال، وتنيسي وليامز أو بول وجين باولز هم بعض من هؤلاء المشاهير المرموقين الذين أعجبوا وكتبوا عن المربّع الحيوي لشكري الذي يقول: إنّني أدافع عن الوسط الذي أنتمي إليه، أدافع عن المهمّشين، وأنتقم من هذا الزمن المذلّ والبئيس..”.
هكذا كان صاحب “الخبز الحافي” يبرّر موقفه ممّا يعيشه ويشاهده من خزي فى عصره، فى هذه السيرة الذاتية المفعمة بالمرارة والمضض لصراحتها المفرطة.
تدمير الذات
ويشير الكاتب “كارليس خيلي” أن كلاّ من بول باولز وزوجته جين اللذين استقرّا فى هذه المدينة منذ عدّة سنوات كانا بؤرة وبوتقة اهتمام العالم الأدبي الذي ينقله لنا شكري بصراحة مرّة، والذي كان يعرف جيّدا بول لمدّة تزيد على 25 سنة، حيث كان شكري يملي عليه باللغة الإسبانية ما كان يكتبه كل صباح من سيرته الذاتية التي كانت فى ذلك الوقت تحمل عنوان “من أجل كسرة عيش” أو “من أجل لقمة عيش”، والتي كان بول باولز يترجمها إلى اللغة الإنجليزية.
بعد ذلك بدأ الخلاف والشنآن بينهما.
شكري فى هذا الكتاب يصف باولز بتلقائية مطلقة، حيث يقول عنه أنّه لكي يكتب كان يدمن على تعاطي الحشيش (الكيف كما يعرف فى المغرب، وكما يورده الكاتب الإسباني)، إلاّ أنّه خارج المنزل كان يشرب السجاير، كان إباحيا مثليا ولم يخف شيئا على رفيقة عمره جين، كما أنّه كان نخبويا وعنصريا.
يقول شكري عنه: “كان يروقه المغرب وليس المغاربة، وكان دائما فى حاجة للإبتعاد عن العالم”.
ويضيف الكاتب الإسباني قائلا: “أن شكري عندما يحلّل ويشرّح بذكاء الحياة الأدبية لبول باولز يقابل أعماله الإبداعية بحياته الحقيقية، كان ينتقد نقدا لاذعا أحد كتب باولز وهو مذكّرات رحّالة حيث كان يقول عنه أنّه كتاب يقوم على رتابة متتالية، وفواصل مملّة، كانت الغاية من وضعه أداء تكاليف التطبيب والعلاج لجين.
وفى رأيه أنّ الجنس كان هو سبب جميع المصائب والمحن التي تلحق بأبطاله، والجنس لصيق بالجريمة والجنوح والمروق، وشخصيات هذا الكتاب مهدّدة بتدمير وتحطيم نفسها ودائما تنتظرها نهاية مؤلمة وقاسية”.
ويشير شكري “أن هذا العمل الأدبي قد شاخ كثيرا مع مرض جين الذي دفع بباولز إلى القيام بترجمات متعدّدة لكتّاب عرب، كما أنه كان يدلي بلقاءات واستجوابات أدبية، ثم طفق فى كتابة يومياته الشخصية”.
ويضيف قائلا: “إنّ مراوغة خيال بول باولز كان يزعج جين، إلاّ أنها لم تكن تعتب على زوجها، فالذي كان ينقصها لم تكن المهارات بل المثابرة، كانت تشعر بالمرارة من عدم الإكتراث وبنوع من الضغينة ممّا كان يجرى، كانت تغرق فى الكحول حتى الثمالة، كما كانت تغرق فى طموحها الذي لم يحالفه النجاح، إذ بعد بلوغها الخمسين من عمرها هجرت الكتابة، الشئ الذي زاد فى تفاقم عنصر التدمير الذاتي عندها، مضافا إلى ذلك السلوك الإباحي غير الحميد عندها”.
زمن الخطايا والمواجهات
يقول الكاتب ”كارليس خيلي” إن كتاب شكري أثار حفيظة بول باولز – حسب “ميغيل لاثارو” مسؤول دار النشر (كاباريه فولتير). وكان الكاتب الفرنسي جان جنيه قد غضب كذلك على شكري لنشره أسراراً كان قد أسرّ بها له من قبل ضمن كتاب آخر باللغة الإسبانية، الشئ الذي أدّى إلى قطيعة بينهما.
وقد صرّح المسؤولون عن دار النشر هذه أنها ستعمل على إصدار هذا الكتاب كذلك باللغة الإسبانية خلال 2013، بالإضافة إلى كتيّب آخر لشكري حول الكاتب الأمريكي تنيسي وليامز يحمل عنوان: “جان جنيه، وتينيسي وليامز في طنجة”.
يشير الكاتب الإسباني إلى أن هذه الكتب والمنشورات الجديدة لشكري جاءت نتيجة التقارب والتعاون القائمين بين الناشر ميغيل لاثارو والمترجمة رجاء بومدين وبين شقيق شكري عبد العزيز.
الكاتب لم يترك أيّ وصيّة مكتوبة رسمية وموثّقة، إلاّ أنّ الوارث يحتفظ فى مرآب، في ظروف غير جيّدة، بمكتبة شكري الخاصة وبعض الموروثات الأخرى منه: “وجوه” و”زمن الأخطاء” (حول التضحيات التي بذلها شكري لتعلّم القراءة). كما ستعمل دار النشر “كاباريه فولتير” على إعادة نشر كتابه الشهير “الخبز الحافي” الذي سيحمل هذه المرّة عنوان “الخبز” باقتراح من الكاتب الإسباني المعروف خوان غويتيسولو (المقيم فى المغرب)، الذي كتب تقديماً أو تمهيداً للكتاب الذي نحن بصدده حول بول باولز، والذي له هو الآخر “معرفة واسعة عن تلك الفراديس الواقعة في شمال إفريقيا”.
انطلاقاً من صداقته وقربه من الكاتب بول باولز، كتب محمد شكري هذه الشهادات الحميميّة التي تزيح الستار عن العديد من الحقائق والأسرار التي ظلّت طيّ الكتمان، والتي لم يتم نشرها من قبل عن المعايشات والمغامرات الطنجاوية الحالكة لهذا الكاتب الأمريكي.
في هذا الكتاب نكتشف علاقة باولز مع أبرز الكتّاب المرموقين في عصره مثل وليلم بوروغس، وألن جينسبيرغ، وترومان كابوتي، ومختلف الأسرار والخفايا التي أحاطت بهذا الكاتب الغريب وزوجته جين. إنه كتاب ينبض بالعواطف ويحفل بالعنف والحقائق المثيرة والصّخب واللّجب والضوضاء حول باولز وكلّ هؤلاء المحيطين به الذين جلبوا الكثير من المتاعب الخطيرة ووجع الرأس لشكري.
ولقد بلغ الأمر بواضع هذا الكتاب إلى الإفصاح عن شعوره بالمرارة والمضض من تأليفه حيث قال: “بكتابي هذا حول بول باولز قتلت والدي الثاني”!
كتاب شكري عن باولز وغويتيسولو ورجاء بومدين
هذا الكتاب كان قد صدر باللغة العربية تحت عنوان (بول باولز وعزلة طنجة) عن منشورات الجمل الطبعة الأولى عام 1997. وتمّ تقديمه بعد ترجمته إلى اللغة الإسبانية بتاريخ 30 يونيو 2012 بمكتبة “الأعمدة” بمدينة البوغاز، بحضور الكاتب خوان غويتيسولو المقيم بالمغرب، ومترجمة الكتاب رجاء بومدين، ومديرة المكتبة سيسيليا فيرنانديث.
وأشارت المترجمة أنها واجهت صعوبات جمّة حتى رُخّص لها بنقل هذا الكتاب إلى لغة سيرفانتيس من طرف ورثة محمد شكري، خاصة من طرف أخيه عبد العزيز.
كما واجهت صعوبات في التعاقد مع ناشر إسباني لإصدار هذا الكتاب، في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها إسبانيا، إلى أن رحّبت دار النشر “كاباريه فولتير” بنشره بمبادرة من الناشر الإسباني ميغيل لاثارو غارسيا، وعبّرت المترجمة عن سرورها وابتهاجها لخروج هذا الكتاب أخيراً إلى النور.
أمّا الكاتب خوان غويتيسولو فقد نوّه بالوصف الذي يقدمه شكري للموسيقار الأمريكي برايان جيسين، الذي عاش هو الآخر في طنجة وتعلّم اللهجة الدارجة المغربية، لمعايشته المغاربة عن قرب.
واغتنم غويتيسولو هذه الفرصة ليتحدث عن تصفية الحسابات التي كانت بين شكري وباولز الذي وصفه “بأبيه الأدبي” لدواعٍ مادية، وقال الكاتب الإسباني: “إن هناك نوعاً من التظلّم في هذا الشأن، ويبدو لي أنه من الأهمية بمكان معرفة وجهة نظر مغربي معوز كان يعيش بين ثلّة من الأمريكيين الذين كانوا يقيمون في طنجة، والذين كانوا يعتبرون هذه المدينة كفردوس أرضي ولكنهم لم يكونوا على علم بكيف كان يعيش المغاربة هنا”. وقال غويتيسولو إن كتاب شكري “مهمّ لا محالة”.
وطلب من الناشر لاثارو أنه عند إعادة نشره لكتاب “الخبز الحافي” أن يضع له عنوان “الخبز” فقط، لأنّ عنوان “الخبز الحافي” يمجّه الذوق الإسباني وهو لا يعني شيئاً في اللغة الإسبانية. وقال له مازحاً: “إنك لو احتفظت بهذا العنوان فتأكّد أنك سترتكب جريمة في حق اللغة الإسبانية”!
مغارة هرقل وما جاورها
كان باولز يقول إنّ حياته تنساب في هذه المدينة بهدوء، وكان لا يطيق العيش ولو لمدة شهر واحد في المدن الغربية الكبرى. ولم يكن لديه ما يفعله في أخريات حياته سوى الكتابة، التي أصبحت متنفّسه الوحيد.
كان يستقبل في منزله العديد من الأصدقاء، وقد تحوّل بيته إلى صالون أدبي يؤمّه مختلف الأدباء والكتّاب، فضلاً عن المشتغلين بالسينما الذين كانت لهم رغبة في نقل بعض أعماله إلى الشاشة الكبيرة. وهكذا، عندما أخرج برناردو برتولوتشي روايته “السماء الواقية”، لم يكن باولز يتوقّع أن يحقق هذا الشريط أيّ نجاح، وعندما أخبره صديقه “روسل” بأنّ الفيلم قد عُرض كذلك بنجاح في المكسيك عبّر عن دهشته.
كان يقول: ربما كان خير قرار اتّخذته في حياتي هو عدم الإقامة في إحدى المدن الغربية. فهو في طنجة كان يعيش حياة هانئة هادئة ولا يزعجه أحد قط. بل إنّ قراره باختيار العيش في طنجة كان من أهمّ الأحداث في حياته، ولم يشعر قط أنه كان وحيداً، بل كانت له علاقات اجتماعية متنوّعة، وأصبح معظم الناس يعرفونه.
وكان يقول إنّ الحياة في الغرب تحوّلت إلى كابوس، والكوابيس لديه منها الكثير. إنّ وجهه المستطيل، وعينيه اللامعتين، وقامته، كل ذلك لم يكن ينسجم مع صوته الخفيض الذي يبدو وكأنه ينبعث من أعماق محيط بعيد.
كانت حياته تمرّ في هدوء في طنجة: يصحو باكراً ليكتب بضع وريقات، وعندما يأتي المساء يشعر بسعادة غامرة، فالمساء جميل وليس له نظير في هذه المدينة الساحرة التي تطلّ على أوروبا، والتي أقام ونام فيها “هرقل” في مغارته الأسطوريّة بعد أن أنجز عمله، والتي عشقها العديد من الأدباء والشعراء والشخصيات التاريخية والفنية، وتم تصوير العديد من الأفلام العالمية بها. كان باولز يقول: “في هذه المدينة يعيش المرء في هدوء وبدون استعجال”.
وكان يربط صداقات مع العديد من الأدباء الكبار مثل كارلوس فوينتس، وأوكتافيو باث، وخوان غويتيسولو، وخوان رولفو، وكان من أشدّ المعجبين بهذا الكاتب المكسيكي الكبير.
كما كان يحلو له الحديث عن الأدباء والفنانين والمشاهير الذين زاروا مدينة طنجة أو أقاموا فيها: باربارا هوتون، غاري غرانت، أوجين دي لا كروا، ونستون تشرشل، خورخي لويس بورخيس، روبين داريو، تنيسي وليامز، برايان جيسين، ماريانو فورتوني، هنري ماتيس، جان جينيه، رامبرانت، جاك ماجوريل، إيف سان لوران، مارلين ديتريش، غاري كوبر، وسواهم. كلهم هاموا بهذه المدينة وكتبوا عنها الكثير.
شُكري من المحليّة إلى العالمية
وُلد محمد شكري عام 1935 ببني شيكر في الناظور وسط أسرة فقيرة. أرغمته معاملة أبيه العنيفة على الفرار، ثم الهجرة وهو في الحادية عشرة. عاش سنواته الأولى في طنجة بين العنف والبغاء والمخدرات. وعندما بلغ العشرين انتقل إلى العرائش للدراسة، وهناك بدأ بالاهتمام بالأدب.
وفي السبعينيات عاد إلى طنجة، حيث كان يرتاد الحانات والمواخير، ويكتب تجاربه الشخصية. أولى قصصه كانت “عنف في الشاطئ”، ونشرت عام 1966 في مجلة “الآداب”.
أفضت اهتماماته الأدبية إلى مصاحبة كتّاب عالميين مثل بول باولز، جان جينيه، وتنيسي وليامز، ودوّن لقاءاته معهم في: “بول باولز وعزلة طنجة”، و“جان جينيه وتنيسي وليامز في طنجة”.
كما ترجم أشعاراً إسبانية لماشادو، أليكسندري، لوركا وآخرين. اشتهر عالمياً بروايته “الخبز الحافي” (1973) التي حُظرت عربياً، ولم تُنشر في المغرب إلا عام 2000. تلتها “زمن الأخطاء” (1992) و”وجوه” (1996) لتشكّل ثلاثيته عن سيرته الذاتية. توفي في الرباط عام 2003.
ونختم بما قاله عنه الكاتب الإسباني “خبيير بالينثويلا”، صاحب رواية “لا طنخيرينا”:
“كان محمد شكري كاتباً كبيراً، وشخصاً رائعاً. هذا المغربي الذي حتى سن العشرين لم يكن يكتب ولا يقرأ، والذي انصرمت طفولته وشبابه في بؤس وشظف وعنف فظيع. كان من الكتّاب الذين يُنعتون بالملعونين. ترك أعمالاً قصيرة، لكنها مؤثرة وجريئة تنبض بحبّ الإنسان، ونبذ الظلم والظلام والظالمين”.
