آراءثقافة

نعمان لحلو.. الفن رسالة لخدمة قضايا المجتمع والطبقات الضعيفة (الحلقة الأولى)

حماية الإرث الأندلسي من الاندثار.. ضرورة قصوى

توطئة

استعنت في كتابة هذه الحلقات بحواراتٍ عميقة أجريتها مع الموسيقار نعمان لحلو في فندق موفنبيك بمدينة مراكش في يوم السابع من شهر يوليو عام 2024، وذلك على هامش مهرجان الفنون الشعبية الوطني الذي أقامته جمعية الأطلس الكبير بقيادة البروفسور محمد الكنيدي.

كما عدت إلى العديد من المقالات الصحفية واللقاءات التلفزيونية القيّمة، منها برنامج “السؤال الصعب” على قناة العربية سكاي نيوز مع المذيعة المبدعة فضيلة سويسي، وبرنامج “ضيف ومسيرة” على قناة فرانس 24 مع المذيعة الراقية عزيزة نايت سي بها.

لقد قمت بصياغة الإجابات بأمانة ودقة، دون حذفٍ أو تغيير، سوى تحويل بعض تعابير المشافهة إلى أسلوبٍ كتابي رفيع يناسب المقام. أتقدم بوافر الامتنان والشكر الجزيل لكل من ساهم في إثراء هذا العمل من خلال جهودهم الثّرّة ودأبهم الحرفيّ الجميل.

من هو نعمان لحلو.. صفاته ومجال اهتماماته

لو أردنا أن نَصِفَ الأستاذ نعمان لحلو، لقلت وأنا السودانيّ الصوفيّ، سوف أصفه ببضع كلمات متواضعات لا تكفي تجاهه: نعمان لحلو إنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ، رجل وموسيقيٌ فنّان، ينشد صداحًا في قلوب الخلق وعلى الأفنان، بجمال واحساس وبفهم العلماء والعُلْمان، بجمال الكلمِ والإتقان، بحلو تواضعه وبالإحسان، بيد أنني أقول عنه قبل كل شئ، هو المغربيّ الأصيل الموسيقي ذو العيار الثقيل، موسيقارٌ وأكاديميٌ مُلهَمٌ بتراثه ومُلْهِمٌ لأهل هذا التراث المتناسى. نعمان بوصلة للتاريخ والموروث المغربيّ الأصيل ومعنى بوصلة أنّه مؤشر كما السيسموغراف الذي يستخدم لقياس الهزات الأرضية.

هذا الفنّان المفعم بحب بلده، الذي عاد إليه رغم كل الإغراءات ووسوسة الأصدقاء. نعمان الصديق، الأب والحبيب هو ابن فاس العلم والأدباء، مدينة الفهم والتسبيح والعلماء، ليس غريبًا عليه أن يكرس كل حياته، فنّه، شغفه وولعه بل اهتمامته لشؤون يؤمن بها أيما إيمان، يُفني عمره فيها وعليها ومنها، يؤرقه انزلاقها وتجريفها وأن تبهت وتُنسى في خضم إرهاصات العولمة الصارخة ، وأن ينسى أهل الفن من أبناء بلده في دهاليز سوق الأغنية السريع المتسارع، الخفيف المتخافف، حضارتهم التليدة، إرثهم من أغنيات خالدة، وأن يلسلوا ألحاناً تفوح بعطور تلك الأزهار التي كانت تحملتها أمّه من السوق وتنتقيها الواحدة تلو الأخرى فيفوح عطرها وعبقها في أرجاء الدار، ينادي أولئك الذين يحملون هذه المسؤولية كما تحمل الدواب أسفارً (كتبًا).

ولا يعرفون أو يعون ما بداخلها، إرث المغرب الكثيف المترامي الأطراف والأعضاء، ذلك من طنجته إلى صحرائه المغربية الصامدة، ومن الصويرة لغاية وجدة في شرقه المزدهر ولو كره الكارهون. يتعجب من أولئك الذين تبهرهم أنواء الشهرة ويركضون وارءها ناشدين ومنشدين الصعود الأفقى تجاهها، دون تدبر، حكمة أو اتزان، اللهم إلا الشهرة وحدها وكفى. بيد أنّه، نعمان الفنّان، قد اختار لنفسه ذاك الصعود الأفقي – على حد قوله – أي الارتقاء المستدام الذي وطّد له ويوطد بعناية فائقة وحرص أمين يحسد عليه. فالأمر بالنسبة له قضية مصيرية وليست لعبة.

ليسه كأؤلئك القائلون: أحضر، أغني، أقبض وأرواح!
يؤمن لحلو بأن الفن إما رسالة لخدمة قضايا المجتمع والطبقات الضعيفة أو ألا يكون (to be or not to be)، يحمل على عاتقه حماية الإرث الأندلسي من الاندثار، وهو كما أراد دائما أن يكون صريح العبارة، شفاف الكلمة وصادق الخطاب، وهو ليس من أولئك الذين يطلقون الكلام على عواهنه لكنه كما عُرف عنه دائما يسمي الأشياء بمسمياتها، ولا يبطره في جهده ودأبه ما يقوله الحسّاد والناقمون أو فيما يكتبه النقاد عنه، ولا حتى من الجمهور إن صدم هؤلاء أو أولئك بسبب آرائه الصريحة التي يعبر عنها بكل صدق ولا يخشى فيها لومة لائم، وهو بإنسانيته يحترم رؤءاهم، رغم كل الهمجات الشعواء عليه وعلى فنّه أغلب الظن من القلة القليلة، فحرية التعبير والجهر به هي من أساسيات ما يؤمن به نعمان لحلو.

يلومه الإعلام بسبب دفاعه عن أغانٍ تعالج قضايا مجتمعية مُلِحَّه

في أحاديث عديدة رجعت إليها في الميديا يلومه النقاد بسبب أغانيه التي تدافع عن قضايا حفظ التراث ونعما وبدون أدنى شك هو لسان من لسان له، لسان السيدات اللائي يعملن في صمت وتؤدة، إذ أنّه يحميهنّ ويسلط الضوء على قضاياهنّ ويضمد جروح من اقتعد الزنقة منزلا وبنى بها بيتًا وخيمة، من أبنائه المتشردين المعذبين في الأرض (les danées de la terre)، ويا عجبي يعيبون عليه اختياره لقصائدة، التي تدخل القلب من أوسع أبوابه.

والله لو كان لهؤلاء ذرّة احساس لبكوا حينما يسمعون قصائده التي هي من قلب الترات المغرب، أيردونه أن يتنكر لتربيته، إرثه وحضارته، للهجته المغربية الحنينة البديعة الزاهية؟ أمالكم كيف تحكمون. أقول لهؤلاء وأولئك، ارجعوا البصر في تحفه الفنيّة وفي أشعاره الراقية الوازنة والمدوزنة بالقوافي.

عن أيّ نثر يتحدث هؤلاء؟! وهب أنّه كان نثرًا، ألم يروا كيف يوظف تلك الكلمات ويُحليها ثمّ يرصعها بأنغام خالدة؟! إذهبوا إلى دور العلم فسوف ترون أنّ مدارس المغرب تصدح بكلماته وتغني ألحانه، وهذا هو خير دليل لخلود تلك الأغنيات. نعمان عمدة الغناء الكبير، نعم، هذه المقولة قالها الفنان السوداني الكبير “محمد الأمين”، واعتبرها مصطلحاً ينبغي أن نقف عنده. ما معنى الغناء الكبير؟ هو الغناء المستدام الذي ينبع من واقعنا، يحكي مآسينا، يغني أفراحنا ويواسي الجروج. غناء ينادي الروح فتناديه، يخترق أمهات النفوس ويختلج فيها ومعها. الغناء الكبير يا سادتي لا يلهث تجاه الشهرة الأفقية، التي تتباهى بآنيتها ولكننا نجدها قد فقدت صلاحيتها بعد عام وخريف، تماماكما معلبات التونة على أرفف الحوانيت ومن ثمّة تصير نسياً منسيًا.

نعمان لحلو لا يبحث عن الصعود العمودي لكنه يرتقي بشهرة تأتي إليه، وهو في الحقيقة لا يبحث عن الأضواء، إذ رأيت ذلك في غضون مهرجان الفنون التقليدية الرائع بمراكش وتحت قيادة البروفسير محمد الكنيدي وأن تلك الأضواء المبهرة تتبعه في كل خطوة يخطوها؛ يا ليتهم يرون تهافت الإعلاميين عليه بعد انتهاء حفل التكريم ومن ثمّة هروع الجموع خلف موكبه وحتى خلف الكواليس، ليتهم رأوا أولئك النسوة البكايات من خلف الأبواب، حسبنه سيخرج منها. والله لولا رجال الأمن ذوو الشهامة لالتهمنّه قبل أن يرتد إليه طرفه

التأثير الاجتماعي لأغنيات نعمان لحلو (impact social)

تدافع أغاني نعمان لحلو باستماتة عن قضايا اجتماعية وثقافية وإنسانية متعددة وأجد اختياره للكلمات والأشعار كما تجده الملايين من محبيه موفق للغاية وجدير بالإشادة. فلنعيد النظر في أغنيتين، مثلًا أغنية “أمي” وكيف رسم فيها لوحات بهيّة عن وجود هذه الإنسانة في فؤاد كل أسرة.

فالقصيدة كتبها لأمّه التي انتقلت إلى ملكوت ربها الأعلي فعندما أسمعها أحسّ بأنها كُتبت لأمّي أنا السودانية، بل لأمهات الملايين في المغرب وحتى في ما وراء البحار.

لذلك فالأغنية تدخل القلب من أوسع أبوابه وتثير الشجن في دواخل كل فرد منّا وتنادي وتناجي من أحببناه وفقدناه: الأم. فالأم أيضًا وبدون أدنى شك مجاز (ميتافور) للأمّة جمعا، للمنزل، للحومة، للقرية وللمدينة على حد سواء. الأم هي الماضي، الحاضر والمستقبل. الأم هي الوطن المترامي الأطراف، نعم، نعم كل وطن وفي كل بقعة و بكل جدارة.

دعونا نعرج انطلاقاً لما أسلفنا ذكره وحار الآخرون في أمره، إلى قصيدة “المدينة القديمة”. أليسها هي أيضا رمزٌ للأمّة والأم، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك، نجدها رمز للأم البلد والبلدة، الحومة والصحاب، على المحيط الوطني والعربي. ذلك لعمري تاريخ فرّطنا فيه وافتقدناه، تلك المعالم الجميلة تركناها لآخرين، ذاك إرث تحوّلت فيه معالم المدينة والشوارع، فقدنا البوصلة والقنديل الذي يضئ لنا ولأبنائنا السبيل، وضرب مثلًا في الأغنية بذاك الدرب: درب القنديل، في تلك الأغنية الخالدة “المدينة القديمة” والتي هي ملحمة في الحقيقة، وكيف تحول هذا الدرب القديم بعد أن باعه أهله إلى درب “سان جيرمان”، فيا لها من مأساة!

هنالك الكثير الوفير من أغانية لو طرقنا باب كل واحدة منها لاحتجنا لكتب تدوّن الجمال بها وترصد الألق والبهاء وتسرد لنا كل المعاني الجميلة التي تحلق فيها وكل ذلك انطلاقاً من إيمان راسخ بدور الفرد منّا والأمّة جمعا في حفظ إرث الجدود وصون التاريخ من الاندثار، تحذير من الانحدار إلى الهاويات فضلًا عن بيعه لبضع دراهم لا تسمن ولا تغني من جوع. ولنأخذ فيه أغنية “المدينة القديمة” مثال ذلك الرجل، الذي سُميّ ب”العربي”، الذي بيعت ديور حومته ولكنه صمد رغم كل الإغراءات، وحكي نعمان قصته المأساوية، وبذلك خلدت هذه الأغنية “لعربي” وجعلته يدخل التاريخ من أوسع أبوابه. ودحضًا لكل ما قيل عن أنّ أغنيات لحلو لم تحقق الانتشار المرجو والمرموق الذي يليق بهامة وطنية مثله فأقول، كفوا عن هذا الهراء، فلكل فنّان سبيله وأسلوبه الذي يميّزه. فلو نقل لحلو بطريقة (الكوبي بيست) كلمات مكرورة وألحان صار الواحد منها يشابه الآخر، في كل بلدان الوطن العربي، لصار عارًا عليه ولتنكر لذاته، فلم يرد ولن يسلك هذا الطريق.

وله حقّ أن يقول في غير مقال: “ليس هناك ما يُسمّى بالأغنية الوطنية أو المغربية” ويقصد بأن ما يغنيه الشباب الآن من مغنيي المغرب، لا سيما الذين فازوا في المسابقات الكبيرة على المستوى العربي، والقدر الكبير من التشابه في ألوانهم وكأنها أغنية واحدة لملحن واحد وشاعر واحد، فكيف بربكم يتثنى لنا أنّ نمييزهم ونفرّقهم بعضهم البعض، ومن ثمّة كيف يمكن أن نضع أغانيهم وتلك القوالب التي عُملت بها وأن نصنفها بأنها مغربية قحّة؟! فأين العزّة باللون وباللسان المغربي المبين؟ وأتعجب من الكثيرات والكثيرين الذين اصطفوا الشهرة واللهجات الشرقية التي لم يتربوا عليها على لسان أمهاتهم وهنا نعود لأغنية “أمّي”، الدار وأمّي الوطن وأمّي الذكريات وأمّي التاريخ الحاضر والمستقبل لنستقيَ العِبَر.

الخيار بين الشهرة العمودية أي البقاء في مصر أو العودة إلى أرض الوطن

لو أراد لحلو البقاء في مصر كآخرين وأخريات لوصل إلى تلك الشهرة المزعومة أفقيًا كالصاروخ ولكن ماذا بعد ذلك؟

فماذا إذا غنّى باللهجة المصرية أو السورية هل نحسّه كما نحسّه الآن عندما يغني باللهجة المغربية؟ أنا لست مغربيًا لكنني أحبّ هذه اللهجة وأقولها جهارة ودون خجل، لقد أبكتني قصة وأغنية “المدينة القديمة” عندما غنّاها على خشبة مسرح قصر المؤتمرات بمراكش على هامش المهرجان الوطني للفنون الشعبية. غنّاها وبكى وأبكانا.

كانت كل كلمة ملموسة محسوسة تدغدغ الوجدان ورأيت من بكى وأدمع ممن جلسوا بجانبي. نعمان لحلو شاعر ويجيد كتابة الأغنيات التي هي دون شك أصعب من كتابة القصائد، لأن بناء الأغنية يحتاج لأسس تعتمد على الحس، الوقع والتسلسل الإلهامي أو البلاغي إن صح التعبير. وهو يلبس ما يليق به وما يحسه ثوبًا أنيقًا يتحلّى به ويناسب بل يتناسب في قياسه إمكانياته الصويتة، اللحنية والإنثروبولوجية الجبّارة. وفي اعتقادي لن يغني لحلو أيّ أغنية كيفما كانت، لا وثمّ لا، لأنه اختار لنفسه دربًا متميّزاً ولونًا فريدًا عليه توقيعه، يمكن لمن يستمع إليه أن يميّزه من بين مئات الأغنيات وآلاف المغنين، لونٌ له خاصية الحلو فكيف لا يتسنى له أن يكون حلوًا.

عمق الأغنية في الاختزال وتنوع القوافي

يحتذي الموسيقار نعمان لحلو في عالم الأغنية الشرقية الأصيلة بالأخوان رحباني، فهما لم يتنكرا أبدًا لأصولهما إذ ظل عندهما النص، اللحن واللهجة من أهم عناصر بناء العمل الموسيقي. وهذا الصنف من الأعمال الغنائية الجادّة يعتمد الاختزال وتنوع القوافي، تارة في العمق وتارة في البساطة، وكما يقال، على نسق السهل الممتنع، حتى تصل تلك الرسائل الغنائية إلى كل قلب، فالحلو لا يكتب ولا يغني للنخبة بل للإنسان بكل سحناته، إثنياته، دياناته أعراقه وتجلياته. ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر بعض من كلماته التي يحكيها جمهوره عليه والتي سمعتها عن كثب، “سي نعمان هوا ديالنا وديال الشعب المغربي قع”.

وإذا سألنا أنفسنا لماذا وكيف نجد حينئذ، ودون لأي، الإجابة على هذه التساؤل شاخصة أمام أعيننا. فأعمال لحلو صارت من الموروث الوطني للملكة المغربية، رعاها الله ورعى من يقوم عليها، فتلك الأعمال صارت تدرّس منذ عقود في المدارس للصغار ذلك ضمن المقرر الرسميّ لوزارة التربية الوطنية فضلًا عن كليّات التربية الموسقيّة ومعاهدها العليا وهذا يا سادتي هو أكبر دليل على النجاح والتميّز.

نعمان لحلو ورأيه عن الشهرة بأيّ ثمن

في أيامنا هذه يمكن ارتياد الشهرة عبر فعائل متباينة أغلبها لا يَمُتُّ للفن بأدنى صلة. إذ نجد من تعجّ بقنواتهم “البسالة” أي “الفاحشة أو لنقل قلّة الأدب” ولعله في يومنا هذا مقياس الشهرة التي يقيس على شاكلتها بعض النقاد.

وهل يتبع رجل مثل نعمان لحلو كل السبل كي يصل إلى قوقعة جوفاء، أو من أجل أن يبني فنّه على أسس من السراب، أيجاري أهل اللغو واللغط وهم في تيههم يعمهون؟

فاللغو صار من عناصر الوصول إلى الشهرة بأي ثمن مهما كانت النتائج. وهناك جملة ملهمة صرّح بها سي نعمان في لقاء صحفي ذُكرَ فيه اسم صديقة له حسبته بالمجنون قائلة: “واش إنت مجنون”؟ لأنّه رفض الشهرة الرخيصة والتماس كل السبل في الوصول إليها، ولأنه اختار ما هو قريب إلى نفسه وتبع ما يمليه عليه ضميره، بأن يعود أدراجه إلى أرض الوطن ومسقط الرأس، فما كانت إجابته إلا أن قال لها: “لا، لن أبقى في الغربة أنا أفضل أن أكون حقيقة صغيرة على أن أكون ظلا كبيرًا”.

كانت النتيجة إن عاد إلى المغرب بعد سنوات من الغربة ابتدأ فيها مشوار حياته من الصفر. لحلو إنسان عُشري، يحب الأسرة ودفء الحياة في العشيرة، يخلو إلى نفسه للتأمل والاستلهام، باحثًا عن الجديد الفريد من الألحان، الجمل الموسيقية والكلمات الصادقة التي تأتي من صميم القلب وتعبر عن شخصيته ولونه الموسيقي.

ذلك يجعلنا نلج إلى الرسالة الوفيّة التي تتجلى عند سماع موسيقاه والتي تنبثق منها أعماق روحه المتشبعة بهذا الهدوء الصوفي الفاسيّ المفعم بالإيمان بالله وحبّ الآخرين. فما أجمل الواقعية في ألحانه عندما يتغنى بالإنسان البسيط ويتحدث عن أحلامه، يناجي تطلاعاته ويضمد جروحه ماسحًا الدمع والأحزان عن أناس نسيناهم، تركناهم على هوامش الطرق وتحت حيطان منازلنا، مثل أولئك الأطيفال الذين يعيشون دونما مأوى، خبزة تسدّ الرمق فضلًا عن أهل أو أقرباء يطبطبون على أكتافهم، ينامون على صدورهم أو يمسحون أحزانهم، فلهم الله في هذه الدنيا.

فالبعد الاجتماعي لأغاني الحلو هي البلسم لكل هؤلاء، وهي الدار التي يلجؤون إليها عندما تتنزل مصائب الدهر عليهم من كل صوب وحدب. من جهه أخرى لم ينسِ لحلو في كلماته الصداحة أولئك الذين قطعوا المسافات من قلب أفريقيا، حفاة عراة، ليركبوا أمواج البحر الطاحنة من أجل ارتياد آفاق جديدة، آمال واعدة، حيوات مديدة وفرص العمر التي لم يتثنَ لهم أن يجدوها في أوطانهم، فمنهم من نجا ومنهم من قضى نحبه، فلم يبدل نعمان في رؤاه هذه تبديلًا، فكان دائما وفيًّا لكل هذه المآسي الذي تترجمها إنثروبولجيا صادقة وهو على علمٍ تام أنها تيمات لا تشدّ الغالبية العظمى إليها، لأنها واقع معاش وحقيقة مأسوية ماثلة أمام أعينا فليس نعمان لحلو الذي يضع رأسه داخل الرمال لكي تنجلي عن ناظريه تلك المواقف، أو متناسيًا كل هذه الحقائق، بيد أنّه يجابهها بعزيمة لا تنكسر، يعالجها ومن ثمّة يلفت الأنظار إليها، صارخًا بها في كل محافل الإعلام والإشهار فلا أسكت الله لك حسًّا أيّها الرجل الهمام.

أغنية أمّي.. هل هي مرافعة لانتقاد حياة الشباب المغربيّ الآنية؟!

بعض النقاد يأخذون عليه في أغنية “أميّ” أن الموسيقار لحلو يندد بالطريقة التي يعيش عليها شباب اليوم وينتقدهم، لكن الأمر أعمق من ذلك، وحسب تصريحاته يقول: “لا لا شيء يزعجني …

الأغنية هي في الحقيقة إثبات حالة، وتعكس الفرق الصارخ بين ما كنا نعيشه في الماضي وبين حياة اليوم، لأننا نعيش حيوات وليس حياة واحدة وتتغير هذه الحياة كل سنتين أو ثلاثة. أنا أتكلم مع روح أمي اللي ماتت منذ عشر سنين وأمي كان عندها هذا آخر تليفون، ما كانش هناك تليفون ذكي، أقول لها: تعالي أمي وشوفي حياتنا كيف ولّت؟ فمواقع التواصل الاجتماعي غدت مواقع لصلة الرحم وأصبحت في الواتساب والفيسبوك هداك الورد اللي كنتي تشتريه وتقطريه وتدير له عصير دلوقت توصلك في التيليفون مصور مرسوم، ولكن في نفس الوقت نقول لها:

هذا وقتهم هذا وقت أمي آخر، يعني هي إثبات حالة ليس إلا، في هذا الاختلاف الصارخ في الحيوات التي عشناها ولا زلنا نعيشها.”

ومسترسلًا عن اختلاف الحيوات قائلًا: “لأنأنا أقولها في الأغنية تنقول: أناس تبارك لك العيد بنفس الرسالة ما تنقص وما تزيد، يعني لما أنا نكتب رسالة وأرسلتها لألف من الناس عنصر الصدق يضيع منها، لما نهز التيليفون وتكلمه نقول له عيدك مبروك ولا نقول له عيد ميلاد سعيد ولا نقول له توحشتك كون واحد المصداقية أكثر ماعرفش أنا هذا على الأقل هذا رأيي.”

أيوجد ما يسمى بالأغنية المغربية …؟!

للموسيقار لحلو نظريّة في ماهية الأغنية المغربية المعاصرة فهو يرى أنّه وفي ظل العولمة الثقافية لم يبق لنا خيارات يمكننا أن ننتقي منها الآسر المتميز، فصارت المسألة تحصيل حاصل وهذه حقيقة مريرة ينعكس ظلها على بلدان العرب من المحيط إلى الخليج. صار “الكوبي” أو لنقل التشابه هو العادة السائدة في سياق الفن وليست الطفرة. إذ نجد أنّ الأغاني صارت صورًا طبق الأصل، يشابه بعضها البعض لدرجة الدهشة والعجب، ذلك سواءًا في مصر أو في المغرب، في اليمن أو بلبنان وحتى في بلاد السلم الخماسي كالسودان والصومال.

مع الأسف انطفأت شعلة التفرد والهوية الوطنية للأغنيات فعلى حدّ قوله: “يعني زمان كانت كل بلد كنت لما نسمع أغنية من اليمن نقول: اه هذه اليمن هذا المقام اليمني، لما نسمع أغنية من العراق نقول: الله هذا المقام العراقي، اليوم ماتقدرش تعرف، لأن كل باغي يدخل في واحد القالب يشبه بعضه، حتى لما كان عنصر السفر نسافر لأي بلد نحس بنوع من الدهشة لأننا نجد أشياء جديدة اليوم أصبح كل شيء يشبه بعضه، اليوم أنا أسافر بين أمريكا وأوروبا والشرق الأوسط وبين مدن المغرب الأشياء تشبه براندات المطاعم، براندات اللبس، الأغاني ولكن في نفس الوقت أنا أعتقد أن الفن اليوم، الفن الموسيقي، خلينا نتكلم على الفن الموسيقي- رغم كل ما يمكن أن نقول عنه إلا أنه يظل يلعب دوره الأمين في انعكاس واقع معين، يعني بما معناه أن اليوم الفن يجب أن يكون كما هو، وإلا سوف يخون الأمانة، لو كان الفن اليوم ذو جودة أعلى لكان يكذب ويخون الأمانة، يجب أن يعكس حياتنا الثقافية، وصف الثقافية كما هي بإيجابياتها وسلبياتها برثها وثمينها، فننا اليوم يشبهنا ونشبهه، إلا من رحم ربك وهناك أناس وأنا أعتقد أنني واحد منهم يريدون أن يسبحوا ضد التيار.

الخاتمة

الموسيقار نعمان لحلو هو فنان متفرد يولي اهتمامًا كبيرًا للحفاظ على التراث المغربي والإرث الأندلسي. من خلال أعماله الفنية، يسعى لحلو لخدمة قضايا المجتمع والطبقات الضعيفة، ويعبر عن انتمائه العميق لوطنه ولهجته المغربية الأصيلة.

يرفض الشهرة السطحية، ويؤمن بالفن كرسالة اجتماعية وثقافية عميقة. يستلهم في أغنياته من واقع الحياة المغربية، متمسكًا بأصالة الكلمة واللحن، ويعبر بصدق عن اختلافات الأجيال والتحولات التي يشهدها المجتمع. إن أعماله المتميزة ومواقفه الصريحة جعلته رمزًا من رموز الفن المغربي، يسعى دومًا للحفاظ على الهوية الثقافية في ظل تحديات العولمة.

https://anbaaexpress.ma/hva3t

محمد بدوي مصطفى

كاتب وباحث سوداني مقيم في ألمانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى