انشغل المراقبون كما الحكومة اللبنانية بالاعتراض الذي وجهته دمشق على نشر لبنان أبراج مراقبة بريطانية على طول الحدود اللبنانية السورية.
والمسألة ليست فقط في مذكرة الاعتراض، بل في الاستفاقة على أمر مرّ عليه عقد من زمن، بما يطرح أسئلة بشأن شكل أجندة النظام السوري ومضمونها من إثارة ملف لم يتمّ الاعتراض عليه والتبرّم منه خلال كل هذه المدة.
وكانت بريطانيا قد أنشأت منذ عام 2014 على الحدود الشرقية اللبنانية 39 برج مراقبة محصنة، يوفر كل منها رؤية لمسافة 10 كيلومترات. ومن المفترض أن لندن بصدد زيادة أعدادها وبناء ما مجموعه 80 برجاً، مستفيدة من تجربة هذه الأبراج المستخدمة في إيرلندا الشمالية.
وليس سراً أن توقيت الاعتراض هو الذي لفت نظر المراقبين وراحوا يبحثون عن مسوغات مستجدّة تدفع دمشق إلى الاستفاقة على الأبراج المشيّدة قبل عقد من الزمن. وسيكون صعباً الوصول إلى لبّ المشكلة التي ساقت وزارة الخارجية السورية إلى كتابة نصّ اعتراضي احتجاجي مخصّب بالمخاوف والهواجس ومُدعّم بالدفوع القانونية التي تنصّ عليها الاتفاقات الدولية في العلاقة بين الدول ذات الحدود المشتركة.
ولا يمكن إلا اعتبار الحدث مرتبطاً بمستجدّ بريطاني في هذا الملف منذ حمل وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون أوائل شهر شباط (فبراير) الجاري مشروعاً إلى بيروت يقترح، كما هي الحال على الحدود الشرقية اللبنانية السورية، نشر أبراج على الحدود الجنوبية، اللبنانية الإسرائيلية. وتتحدث معلومات عن إسقاط بيروت الاقتراح. وفي أسباب الأمر قيل إن هذه الأبراج ستكون موجهة فقط إلى الداخل اللبناني، ولديها قدرة تنصّت لمسافة 40 كلم. وبغضّ النظر عن دقّة المعلومات بشأن كفاءة الأبراج ووجهة عيونها، فإن قرار الرفض اتّخذ قبل طلب أي تعديلات لمهمات الأبراج بضغط من “حزب الله”، بسبب ما يمكن أن تشكّله تلك الأبراج من مخاطر أمنية على الحزب، ناهيك بتقييد حراكه الذي سيتمّ رصده عبر كاميرات الأبراج العتيدة.
وإذا ما كان “حزب الله” يثير مخاوف من أدوات الرقابة ذات التكنولوجيا البريطانية، خصوصاً إذا ما أصبح اقتراح كاميرون أممياً داخل أي اتفاق حدودي تدعمه واشنطن، فإن من المنطقي أن تتحرّك دمشق الحليفة للحزب، وإيران من ورائه، لاغتنام الفرصة لـ”الانقلاب” على أبراج مراقبة على الحدود الشرقية سكتت عنها طوال 10 أعوام، لا بل كانت شريكة مع الجيش اللبناني في استغلال كفاءاتها لمراقبة الحدود وضبط حراك المعارضة المسلحة أو تنظيمات الإرهاب وعصابات التهريب بين البلدين.
تجد دمشق حجّة مثالية من خلال الأبراج في تفسير فضيحة الاختراق الأمني الذي أدى إلى نجاح إسرائيل في تسديد ضربات نوعية موجعة استهدفت مواقع عسكرية استراتيجية وبنى تحتية سورية وأخرى لإيران وميليشياتها، إضافة إلى اغتيال شخصيات قيادية مهمة في قلب مربعات أمنية يفترض أنها محصّنة محمية ذات مناعة عالية.
يبقى أن هذه الأبراج كانت تعمل وفق مهمات يشرف عليها الجيش اللبناني خلال الأعوام الأخيرة، من دون أن يحمّلها النظام السوري في عزّ المعارك الداخلية في سوريا وفي عزّ ضربات إسرائيلية متكررة خلال العقد الأخير أي مسؤولية عن عجز أمني مخابراتي استنتجه الأجهزة السورية ويهدد “الأمن القومي السوري”، كما جاء في ديباجة مذكرة وزارة الخارجية السورية.
والحال أن ما يصل إلى بيروت من أوراق وأفكار ومبادرات لتبريد جبهة جنوب لبنان أولاً وتسوية النزاع الحدودي مع إسرائيل ثانياً، يحمل في طيّاته معالجات أمنية محلية وأممية مدعّمة بعون دولي عسكري وتكنولوجي للجيش اللبناني والقوى الأمنية للسيطرة على أمن البلاد وحدودها مع الجوار. وفيما يرفض “حزب الله”، كما فعل خلال العقود الأخيرة، أي مشاريع لتقوية احتكار الدولة للأمن.
فإن الحزب الذي ما زال متحفّظاً على صفقات تقيّد من انتشاره العسكري وسطوته على منافذ لبنان الحدودية البرية والجوية والبحرية، فإنه في الوقت عينه – كما حال دمشق وطهران – لا يريد دخولاً غربياً إلى الساحة اللبنانية حتى من بوابة المراقبة للتكنولوجيا ومنها أبراج بريطانيا.
يعتبر بعض المراقبين للشؤون السورية أن النصّ الذي أرسلته وزارة الخارجية السورية تقصّد أن يعجّ بصيغ دبلوماسية خال من أي لهجة مهدّدة، وكأنه يستدرج بيروت إلى فتح هذا الملف وجعله شفافاً أمام السلطات العسكرية والأمنية السورية. الأمر قد يتيح مشاركة مع الجيش اللبناني في الاطلاع على حدود مهمات المراقبة.لا سيما عدم اتصالها بجهات دولية، وخصوصاً بريطانيا.
كما أن المبالغة في عرض الحجج القانونية المنظِّمة لعلاقات الدول المتجاورة، يوجّه رسالة إلى المجتمع الدولي بمكانة دمشق داخل الخرائط الدولية والتذكير، بدعم من روسيا وإيران، بمواقفها المعارضة للغرب في ظل غياب أي سياقات دولية لتعويم النظام السوري والاعتراف به نهائياً. وتعتبر دمشق أن ضغوطاً مصدرها واشنطن ولندن وغيرها تقف وراء توقّف عمليات التطبيع الإقليمية التي كانت أعراضها قد تدافعت العام الماضي.
ويستغرب مراقبون من “حملة” تشنّها دمشق ضد الأبراج البريطانية فيما لم يظهر من “حزب الله” خلال السنوات الماضية أي مواقف تشكّك بنزاهة الأبراج البريطانية، لا بل إن هذه الأبراج استعان بها الجيش اللبناني في معركة “فجر الجرود” التي خاضها ضد تنظيم “داعش” شرق البلاد عام 2017، وهي معارك شارك بها علناً “حزب الله”.
ولئن تسجّل دمشق الاعتراض في مذكرة ترسلها وزارة الخارجية السورية إلى وزارة الخارجية اللبنانية، بمعنى التراسل الرسمي بين الحكومتين، فإن “حزب الله” ليس بعيداً عن الأجواء السورية وربما يكون وراءها في محاولة لإبعاد لبنان عن أي غطاء أمني أو عسكري دولي.
وإذا ما سارع وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب إلى الإعلان أن “لبنان لا يقبل بأن تشكل هذه الأبراج أي أمر عدائي تجاه سوريا”، فإن في موقف الوزير قبل جاهزية ردّ الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية ما يوحي بالريبة التي ينظر من خلالها الحزب إلى مشروع كاميرون جنوباً لجهة ما يشكله نشر الأبراج من خطر على أمن الحزب مع مفعول رجعي على أمن سوريا أيضاً.
ويجب عدم استبعاد مسألة فتح ملف الأبراج البريطانية في لبنان عن حالة الصراع الدولي بين الغرب من جهة، وروسيا ونفوذها في مناطق العالم من جهة أخرى. ولئن تجدد الدول الغربية في الذكرى الثانية لحرب أوكرانيا عزمها على التصدي للقوات الروسية في هذا البلد، فإن موسكو تخشى من هذا التمدد الأمني الأميركي البريطاني داخل لبنان، وعلى الحدود مع سوريا بصفتها ساحة نفوذ أساسية لموسكو في المنطقة. وإذا ما تلتقي موسكو ودمشق وطهران وحزبها في لبنان في خندق واحد ضد المنظومة الغربية.
فإن مواقف دمشق من “أبراج لندن” في لبنان قد لا تكون بعيدة عن واجهة لتصدٍ مشترك ضد سيناريوات كثيرة تنتظر لبنان. هنا تقوم دمشق بوضع النقاط على الحروف، وتوجيه رسائل الحلفاء من خلال بيروت إلى لندن أولاً، ومن يهمه الأمر ثانياً، بشأن من يسود لبنان في أي تسويات عتيدة.