آراءثقافة

أزمة التربية على العقل

النظام التربوي مدعو عالميا وتحديدا في العالم الثالث إلى إحداث ثورة حقيقية في سياسته

حسب البيانات الاحصائية، فإنّ منسوب التّعلُّم ازداد بوتيرة قصوى في العالم بما في ذلك منظومة الهامش. هل يا ترى واكب ذلك منسوب الإبداع والابتكار؟

من بين آلاف الموصوفين بالباحثين في العلوم الصلبة أو الاجتماعية، يوجد نواذر ممن يحملون همّ الاجتهاد والابتكار.

لقد ساهم التعليم الاجباري وربط التعليم بسوق الشغل إلى بروز ظاهرة ما أسميه بـ”الجهل التّعلُّمي”، وهو جهل يتقوّم بالخصائص التّالية:
– همّ الاجتياز لا همّ التحصيل
– تنمية الحافظة على حساب العقل
– التكرار وإعادة إنتاج الموجود
– غياب ضابطة للتمييز بين الابتكار والتكرار
– غياب معايير للتمييز بين التّناص والتّلاص

هذه وخصائص أخرى، لها أثر بالغ على التكوين العقلي، حيث تقنية التعلمات الحديثة، لا سيما في منظومة الهامش، تذكي هوس الاجتياز عبر أضعف الملكات، لأنّ الحفظ ليس في طليعة ملكات الفهم، فإذا تفرّد وطال أمده، ساهم في إضعاف سائر الملكات. فالتعلم يقتضي توازن في تربية الملكات.

ينتج عن ذلك فوضى عارمة، وهي ظاهرة في ازديادفاحش، حيث باتت العلوم لا سيما الاجتماعية، مجالا مفتوحا يصعب فيه التمييز، بل بات عرضة للنصب والاحتيال بالمفاهيم وعلى المفاهيم. ذلك بسبب غياب الضابطة، ونظرا لبؤس آليات التربية على العلم.

مع تزايد نسبة التمدرس والتعليم في المجتمعات النامية، باتت تطرح حسب تقارير الأمم المتحدة بعض أشكال الأزمات التي أفرزتها أنماط التعليم. لكننا عند تأمّل محتوى ما تُدَقُّ له أجراس الإنذار في السياسات التعليمية، له علاقة بموضوع التنمية وسوق الشغل وما يطلبه هذا الأخير من العملية التعلمية.

وكانت الأمم المتحدة قد نبّهت في عام 2020، مع اجتياح وباء كوفيد 19، إلى خطورة  الغلق المؤقّت لغالبية الدول  للمدارس، وحسب ما جاء في تلك الإحصائيا، أنّ “مما أثر على أكثر من 91 في المائة من الطلاب حول العالم. وبحلول شهر أبريل 2020، فإن ما يقارب 6.1 مليار طفل وشاب كانوا خارج المدرسة”.

وبالفعل، إنّ هذه الوضعية أثارت انتباه المنظومة التعليمية في العالم، حيث أصبحنا أمام كساد تعليمي، ربما ساهمت التقنية في تعويض جزء منه كبيرا. والحقيقة، هي أنّ السنوات الصعبة التي تسببت فيها كورونا، منحت فرصة لتداخل قيم التعليم بقيم الأسرة، وأدمجت الأسرة في مسؤولية التربية، كما منحت التقنية دورا في تحرير الطفل من هيمنة الاحتكاك الروتيني وما يصاحبه من أشكال التحكم بالذهن.

لقد كانت فترة كورونا مناسبة لتحرير العقل أيضا من رتابة التعلمات القائمة على سلطة الحافظة، ومنحت الطفل أكثر من أي وقت مضى مساحة للتّأمّل، حيث امتزج العلم بالخيال باللعب الذي يوفّره الحيز الأصلي، أي التلقين في المكان نفسه الذي يجد فيه الطفل مزيدا من الحرية والخيال، من خلال الدمج بين التعلم وشعرية المكان.

لا تسمع الأوكار التعليمية بشروطها المزرية للطفل في أعماره كلها بفرصة للتّأمّل وإعادة تفكير ما تلقّاه. فسياسة التلقين تحاصر العقل في تلك الأوكار وتلاحق الطفل عبر دروس الدعم والفروض في البيت، مما يشوّش على الحيّز الأصلي، تفرض المدرسة وفق النمط الحديث أن تجعل الأسرة نفسها جهازا للمراقبة تابعا لسلطة المدرسة وسياستها. وحينما يجتاز المتعلم كل هذه الأطوار من محاصرة العقل، يكون قد أتلف العقل وأضعف ملكة التّأمّل، فيستغرقه سوق الشغل إلى أن يلفظه جثة هامدة.

تستمر هذه الحالة من العبودية وسياسة سجن العقل وتأطيره خلف قضبان التلقين البليد حتى النهاية.وكم يوهم هؤلاء أنفسهم بأنّهم امتلكوا ناصية التفكير. ذلك لأنّ العبر-مناهجية التي كانت متاحة في إطار التعلمات ما قبل شمولية المراقبة والعقاب التعليمي، أصبحت مستحيلة اليوم، في زمن عبادة التخصص غير المنفتح، وفي زمن الرِّقِّيَّة الإرشادية، التي تقتل ملكة الإفتراض وتضعف هرمون الشجاعة من أجل المعرفة.

النظام التربوي مدعو عالميا، وتحديدا في العالم الثالث إلى إحداث ثورة حقيقية في سياسته. لا يكفي شمولية التعليم الإجباري، ولا يكفي ربط التعليم بالتنمية المستدامة، على أهمية ذلك كله، بل لا بدّ من تحقيق المصالحة بين المدرسة والعقل، لأنّ المتوفر حتى اليوم هو شكل من الترويض على ممارسة واستحضار العلوم وليس تعقّلها والابتكار فيها. الابتكار بات ضربة حظّ في ملحمة الجهل التعلُّمي.

اهتدى البعض في بواكير  الفكر الحديث لوضع اليد على هذه الأزمة، أي أزمة اختزال العلم والفكر في الذّاكرة. ويكفي استظهار موقف مالبرانش في البحث عن الحقيقة، ولنحصر هذه الأزمة في ما آلت إليه الصناعة الفلسفية، من حيث باتت مجالا للحافظة وليس للتّأمّل والتفكير. موقف مالبرانش بديهي لمن أدرك قيمة التّأمّل، ولم يستسلم للنّص الكلاسيكي. القراءة تأمّل في المكتوب أكثر من مجرد الفهم.

يعتبر مالبرانش أن هؤلاء المدمنين على عدم استعمال عقولهم ينتهون شيئا فشيئا إلى ضعف استعمالها. الذين يعكفون على أعمال أرسطو وأفلاطون في نظر مالبرانش، غير آبهين بمشاعر قرائهم، لأنّ هدفهم هو بلوغ هذا المحتوى وليس ما يجب أن يدركوه.

العلم أو الفلسفة التي يتعلمونها هي بالأحرى، حسب مالبرانش، علم الذاكرة وليس علم العقل. إنهم يعرفون أفعالا وأحداثا، وليس حقائق، بل هم بلأحرى، مؤرخون وليسوا فلاسفة، وبتعبير مالبرانش هم أناس لا يفكرون، ولكن يمكنهم أن يقصّوا عليك آراء الآخرين.

وطبعا لا تقف ملاحظة مالبرانش عند هذا الحد، بل يقدم أساليب ناجعة لأفضل قراءة للنصوص القديمة، تنقذ هذا الموقف. ولقد وجدت نفسي منذ الطفولة أستعمل هذا الأسلوب الثوري في القراءة، ولما وقفت على ملاحظات مالبرانش، أحسست بتوافق كبير سبق وعالجته قبل سنوات في مقالة حول سيرة قارئ.

إنّ العلم الحقيقي هو الذي يتحقق بعد شقاوة الشّك والافتراض والدحض، وذلك هو طريقه إلى الرسوخ والتعقل. وعلى هذا الأساس، فإنّ المطلوب منهجيا مساءلة المتلقي أوّلا عن رأيه إزاء قضية ما، قبل تلقي أجوبة الآخرين. وحين التلقي لا بدّ من تدريب المتلقي نفسه  على أنّ شيئا من حتّى، في مجال المعرفة، يبقى في غرفة انتظار بآماده القريبة والبعيدة.

إنّ القراءة والتّلقّي فعل إبداعي بامتياز، وإنّ التعليم هو فنّ تعقّل الفنون لا روايتها فحسب، وإنّ التعلّم الذي يؤجّل ويتجاهل تنمية ملكات العقل، هو تعلّم فاشل. وعلينا أن نذكّر بأنّ التلقي السلبي ليس ممارسة عقلية، بل هو ميكانيزم دّ الشرط  الذي تُشاركنا فيه كلاب بافلوف.

والمطلوب: اعقلوا عني الحديث عقل دراية لا عقل رواية.

https://anbaaexpress.ma/fydnt

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى