آراءسياسة
أخر الأخبار

تحليل.. كيف يُصنع القرار في واشنطن؟

خلال اسبوع ربما سقطت الترامبية حتى لو استمرت جلبتها تجذب مدمنين على جرعات من شعبوية تدغدغ المشاعر وتبيع السوق أوهاما

استخدم ضيف الزميل عبادة اللدن في برنامجه “مؤشرات سياسية” على قناة العربية، تعبير “الخرف الاقتصادي” في وصف قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فرضة الرسوم الجمركية في 2 من نيسان الجاري. وأن يأتي التعبير من أكاديمي متخصّص، فإنه يضفي على الوصف حمولة علمية، ربما هي الأدقّّ في تبرير تراجع ترامب عن قرارته تحت عنوان “تعليقها” في 9 من نفس الشهر، أي بعد 7 أيام فقط لا غير. خسر العالم، والولايات المتحدة خلال تلك الأيام ما لا يحصى ويُعدّ.

والخرف هنا يسري على واقعة مغادرة معايير العقل. كان باحثون وأكاديميون ورجال أعمال وكبار المحللين الماليين، وهم أهل عقل، وأدواتهم مؤشرات وأرقام وتجارب، يحذّرون وينهون ويتخوفون ويرفضون. لكن السيّد في البيت، وبصفته “المنقذ” لأمة يستغلها “الأشرار”، غرف من خارج معايير العقل وقوانينه. بدا مستشارو الرئيس، وهم أهل معرفة وخبرة، مستبسلين في اجتراح نظريات غبّ الطلب لملاقاة غرائز رئيسهم وحمل الماء إلى طواحينه.

حتى أن وزير الخزانة، سكوت بيسنت، نصح، مزهوا مؤمنا بحكمة رئيسه، أن لا ترد الدول بالمثل، وكاد يقول “استسلموا جميعا”.

في علم السياسة وسلوك الساسة قد يستغرق الأمر زمنا طويلا قبل أن تظهر نتائج أي عبث وتعجّل وتهوّر يأخذه أصحاب القرار. هكذا تماما اكتشف الأميركيون بعد عقود كوارث قرارات اتّخذها رؤساؤهم، فأغرقت بلادهم في وحول فيتنام أو العراق أو أفغانستان وغيرها، ناهيك مما دفعه أهل تلك البلدان من أثمان وأوجاع. في علم الاقتصاد الأمر لا ينتظر عقودا ولا حتى ساعات.

في دقائق قليلة استفاقت الأسواق غداة “يوم التحرير” الذي تفاخر ترامب بإعلانه، على تدحرج كان صاعقا، على الرغم من أنه كان متوقّعا، حتى من قبل المبتدئين.

شيء ما غيرته الواقعة. بدت الولايات المتحدة في فرّ. وبدت الصين في كرّ مستعدّة للحرب الكبرى من دون تراجع أو “تعليق”.

كالت عواصم أوروبا كثيرا من الأوصاف على ذلك “الخرف” بما لا يليق بعلاقات تاريخية اتّسمت بها ضفتا الأطلسي منذ النصر المشترك في الحرب العالمية الثانية. جمع بلدانَ المنظومة الغربية مذاك سراءٌ وضراء، وإذا بواشنطن تلسعهم بسوطها خبط عشواء لا تفرق بين عدو وحبيب.

خلال اسبوع ربما سقطت الترامبية حتى لو استمرت جلبتها تجذب مدمنين على جرعات من شعبوية تدغدغ المشاعر وتبيع السوق أوهاما.

كان سرياليا ذلك الوصف الذي أطلقه حليف ترامب، إيلون ماسك، على مستشار الرئيس للتجارة والتصنيع، بيتر نافارو، وهو ليس إلا مستشارا لا بملك القرار. لم يصفه بالخرف، بل فقط بأنه “غبي”.

خسرت الأسواق. وهي بالنهاية أسواق الأغنياء التي تعبّر عنها بورصات نيويورك وباريس ولندن وطوكيو وغيرها.

الكارثة كبيرة، لكن يمكن استيعابها وتصحيحُ قدَرِها كما سبق للأغنياء أن فعلوا في “أيام سوداء” شهدتها الأسواق.

في رأس رجل أعمال مثل ترامب أن البزنس ربح وخسارة وهو إن يشنّ بعزم حرباً تجارية، فهو يتراجع عنها بمكابرة من دون أن يرفّ له جفن. ففي “يوم التحرير” أخبر ناخبيه أنه يريد “تركيع” الخصوم. ويوم “التعليق” أخبرهم أيضا أنه فعل ذلك وهم يجرون خلفه لإبرام الصفقات.

في الحديث عن الخرف. تلك المحاضرة في علم السياسة والتاريخ التي أتحفنا بها الرئيس إلى جانب ضيفه بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض. تحدث عن قطاع غزّة كعقار “رائع” ما زال يعوّل على امتلاكه.

أما أبناء تلك الأرض فهم مجرد سكان عقار يجري تحديثه، وكما شأن أي مشروع تطويري، هم تفاصيل يسهل “شحنها” إلى مصائر بديلة. لا سياسة في الكلام ولا تاريخ ولا حتى أبجديات ترتبط على الأقل بعلوم المصالح وديباجات الدبلوماسية. ومع ذلك ستجد دائما من يرى أن هذا “الساحر” سيغيّر بالصدفة والحظ الشرق الأوسط.

في واشنطن رئيس يقود وإدارة تُقاد. يمسك الرجل بالبيت الأبيض والحزب الجمهوري الحاكم والكونغرس بغرفتيه.

يسيطر على البنتاغون ووزارة الخارجية والأمن القومي بمستشاره والأجهزة التي ينسّق في ما بينها. ليس صحيحا ما يُشاع عن انقسام داخل تلك الإدارة بشأن الموقف من إيران أو سياسة البلد في سوريا أو مقاربة العلاقة مع أوروبا..إلخ. لا صوت يعلو فوق صوت الرجل الذي وعد أن “تعود أميركا عظيمة من جديد”.

كان الرئيس يحاط في السابق بإدارة. بات الرئيس يحاط برجاله. يكفي تأمل فضيحة تطبيق التراسل “سيغنال” لاكتشاف الخفّة التي يتهافت بها هؤلاء على تنفيذ أوامر سيّدهم والتنافس على طاعته. حتى أن نائب الرئيس، جيه دي فانس، لم يكن يعلم شيئا عن قرار رئيسه (وهو نائبه) بدء حرب ضد الحوثيين في اليمن.

قد تبدو لحظة الخرف الاقتصادي التي تحدث عنها الأكاديمي الخبير قد طويت بعد أن ارتكبت من الكبائر ما ارتكبت وعاد السوق إلى رشده. الأسواق تحبّ التوقّع وتمقت المفاجآت. غير أن العالم، وخصوصا الشرق الأوساط أمام سنوات من عدم التوقّع على النحو الذي يجعل عواصم المنطقة متنبّهة متوتّرة جاهزة للانخراط الدائم في التماس مع ذلك الرجل الذي قد ينام على مزاج ويستيقظ على آخر.

أما أن يخطئ أو يصيب فذلك حظ قد يفيد المنطقة وقد يضرّها ( والله أعلم). قد يجد البعض في تلك الطباع نعمّةً، ذلك أن الرجل الذي يُظهر عنادا، يتأثر بهمس الآذان، فيعود برشاقة عن قرارات اعتبرت نهائية. حتى أنه من دون حرج قد ينفي تماما أنه فد اتّخذ يوما تلك القرارات. هل تعرفون ماذا تعني أعراض تلك الحالة؟

https://anbaaexpress.ma/fufsr

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى