في خطوة تثير الكثير من الجدل وتطرح الكثير من الاستفهامات، وتفتح الباب على نقاش سياسي وثقافي واسع، تستعد الصحفية الإسبانية سونيا مورينو لتقديم كتابها الجديد “المغرب، الجار غير المريح” يوم الأربعاء 15 أكتوبر 2025 في مدينة مليلية (المحتلة)، بحضور الصحفي خوسيه ماريا نافارو.
هذا الحدث الذي تنظمه دار النشر الإسبانية “La Esfera de los Libros” يتجاوز كونه عرضاً ثقافياً عادياً إلى خطوة تحمل رمزية ثقيلة في سياق العلاقات الحساسة بين الرباط ومدريد، خصوصاً وأن المكان المختار ليس رقعة عادية بل أحد الثغور التي لا تزال تذكر المغاربة يومياً بجراح التاريخ المفتوح.
الكتاب الجديد لمورينو، التي تعمل مراسلة في المغرب منذ أكثر من عقد، يُقدَّم كعمل صحفي تحليلي يسعى لفهم تعقيدات الجار الجنوبي، لكنه في الوقت نفسه يثير العديد من التساؤلات حول خلفياته وخطابه.
فحسب دار النشر الإسبانية، يعتبر هذا المؤلف أساسياً لفهم الطموحات الجيوسياسية والإقليمية والاقتصادية للمغرب، وكيف يرى إسبانيا في لحظة دقيقة من صورتها الخارجية.
غير أن مضمون الكتاب، كما تسرب من الصحافة الإسبانية، يذهب أبعد من مجرد التحليل، إذ يتناول قضايا الهجرة غير النظامية، ودعم رئيس الحكومة بيدرو سانشيز لمخطط الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، والعلاقات المعقدة مع الجزائر، والتحالفات العسكرية للمغرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل، فضلاً عن الأبعاد الاستراتيجية لسبتة ومليلية ومياه جزر الكناري.
باختصار، الكتاب يرسم صورة شاملة عن موقع المغرب في المعادلة الإقليمية، لكنه يفعل ذلك من زاوية إسبانية خالصة قد لا تخلو من أحكام جاهزة أو تصورات تاريخية متجذرة.
اختيار مليلية لتقديم الكتاب ليس تفصيلاً عرضياً، بل فعلٌ رمزي بامتياز. المدينة التي يراها المغاربة جزءاً من ترابهم الوطني المحتل تتحول في هذا الحدث إلى منصة لتقديم عمل يتناول السيادة والمجال والموقع الجغرافي للمغرب.
وهذا ما يجعل الخطوة أقرب إلى رسالة سياسية موجهة من أن تكون مجرد فعالية ثقافية. فالتوقيت أيضاً ليس بريئاً، يأتي في ظل توترات صامتة بين البلدين رغم الهدوء الدبلوماسي الظاهري، وبعد مرحلة أعادت فيها مدريد تموضعها في ملف الصحراء لصالح الموقف المغربي، وهو ما أثار امتعاضاً في أوساط إسبانية داخلية.
لذلك يبدو أن مورينو اختارت لحظة حرجة ومكاناً حساساً لإطلاق كتابها في محاولة لجذب الأنظار، وربما لإثارة النقاش من بوابة “الثغور المحتلة”.
من الجانب المغربي، ينظر إلى الخطوة بكثير من الريبة. فالمغاربة يعتبرون مليلية رمزاً للسيادة المفقودة، وأي نشاط يحمل مضموناً سياسياً أو نقدياً للمغرب في هذه المدينة يقرأ باعتباره استفزازاً أو محاولة لإعادة إنتاج خطاب الهيمنة الثقافية والسياسية.
ومع ذلك، هناك من يرى أن الحدث يجب ألا يمنح أكثر من حجمه، وأن النقاش الحر حول العلاقات الثنائية بين البلدين ضروري لفهم طبيعة التحولات التي يعرفها الحوض المتوسطي.
لكن الرمزية تبقى حاضرة، خصوصاً حين يُطرح “المغرب” في مدينة مغربية تحت الاحتلال أمام جمهور إسباني يُقال إنه لا يدرك تماماً أهمية هذا الجار الجنوبي في أمنه وهويته واقتصاده.
الكتاب من حيث المضمون يبدو محاولة لقراءة المغرب كفاعل صاعد في المنطقة، يسعى إلى تعزيز نفوذه الإقليمي وبناء تحالفات جديدة مع قوى كبرى، وهو ما تعتبره بعض الأوساط الإسبانية مصدر قلق متزايد.
وقد أشارت دار النشر في وصفها للعمل إلى أن “المغرب بات محورياً لإسبانيا في ملفات التجارة والهجرة والأمن، لكن الشعب الإسباني يتعامل مع هذا الواقع بإهمال قد يُكلّفه غالياً”.
هذا التصريح وحده يختصر فلسفة الكتاب.. الاعتراف بمركزية المغرب، ولكن من زاوية قلق إسباني أكثر منها شراكة متوازنة.
تحليل الحدث يكشف أن اختيار المكان والزمان يخدمان غرضاً دعائياً مزدوجاً.. إعلامي وسياسي، فمن جهة، يضمن العرض في مليلية تغطية واسعة في الصحافة الإسبانية والمغربية معاً، ومن جهة أخرى، يبعث برسالة ضمنية مفادها أن إسبانيا لا تزال تنظر إلى الثغور كجزء من مجالها الرمزي والسيادي، حتى في النقاش الثقافي.
هذا النوع من “الاستفزازات الناعمة” هو ما يجعل الملف المغربي الإسباني دائماً مفتوحاً على التأويلات.
ورغم أن الكتاب قد يقدم مادة غنية لفهم العلاقات المتشابكة بين البلدين، إلا أن إطلاقه في مليلية يفرغ جزءاً من قيمته الأكاديمية، لأن الحدث سيتحول من نقاش فكري إلى قضية سيادية. فالخط الفاصل بين التحليل الموضوعي والرمزية السياسية هنا دقيق جداً.
وبالنظر إلى السياق الإقليمي المتوتر أصلا، فإن أي خطوة ذات بعد رمزي يمكن أن تفهم كرسالة أو كاختبار لمدى حساسية الطرف الآخر..
في المقابل، يمكن النظر إلى هذه المبادرة كفرصة للجانب المغربي لتجديد طرحه الثقافي والإعلامي داخل إسبانيا.. فبدلاً من الاكتفاء بردود الأفعال الغاضبة، ربما يكون الوقت قد حان لإطلاق مشاريع فكرية ومؤلفات مضادة تقدم رواية المغرب عن نفسه وعن علاقاته مع الشمال.. ذلك أن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل أيضا على مستوى السرديات والصور الذهنية.
خلاصة القول، أن تقديم “المغرب، الجار غير المريح” في مليلية المحتلة ليس حدثاً ثقافيا بريئا إنه فصل جديد من التوتر الرمزي بين الرباط ومدريد، يختبر حدود اللياقة الدبلوماسية ويكشف عمق الهوة في فهم كل طرف للآخر.
وبين من يراه استفزازا متعمدا ومن يراه ممارسة عادية لحرية التعبير، يبقى الثابت أن العلاقات بين الجارين لا تزال محكومة بتاريخ طويل من الحذر المتبادل، وأن كل خطوة، حتى لو كانت في قاعة كتب صغيرة، قد تحمل في طياتها أبعاداً أكبر مما تبدو عليه في الظاهر.




