آراءمجتمع

صناعة التفاهة أو نظام التفاهة

شخصيات فاشلة، كتب رديئة، تحليلات سطحية، دراسات تدعي أنها عميقة، تَصَدُر مجموعة من الفاشلين السطحيين سيادة المجتمع.

في نظام التفاهة تُسيطر مجموعة من الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة؛ بحيث تتم مكافأتهم على رداءتهم وتفاهتهم عوضًا عن مكافأة العاملين والجادين والمبدعين.

إن نظام التفاهة نظام مكين، يضرب جذوره في تربة المجتمع شيئًا فشيئًا، بشيء من المنهجية والاستقرار المرعبين. فلقد طالت التفاهة جميع مناحي الحياة بدءًا من أبسط الأمور حتى أعقدها، فنحن اليوم نرى تصدر أشخاص تافهين، لا يملكون محتوى مفيدًا، أو قيم عليا، أو مبادئ ومُثل كبرى، وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا، بينما أي محتوى مفيد وقيم يتم تجاهله أو الإعراض عنه.

كما نرى تصدر الفنانين التافهين والأثرياء، الذين ينتجون لنا فنًا قبيحًا لا يُناقش فكرة، ولا يحل قضية، ولا يلامس جوهر الوجود الإنساني.

في نظام التفاهة ينسحب التفكير العميق التأملي، فعوضًا أن يكون لدينا خبراء وعلماء وفلاسفة وعباقرة، يتم إفساح المجال إلى تغول البساطة والتنميط والسطحية في كل شيء، فالجامعات اليوم تُخرج لنا سنويًا آلاف من الطلبة الفارغين فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا وفلسفيًا ودينيًا، عاجزين عن التعاطي مع مشكلاتهم المجتمعية، لا يتصفون بالعمق أو التفكير المنطقي العلمي المنهج، أي غياب الخطاب النقدي المتُقد المستنير، ويتجلى ذلك في عجز الطلبة عن القراءة في الكتب والمراجع الأصيلة، والبحث عن المعلومة؛ حيث يُعطى الطلبة مواد جاهزة لأجل دراستها فقط أيام الامتحانات (ملازم فيها تلخيص التلخيص)، ثم يكون مصيرها حاوية القمامة بعد الانتهاء منها، فقد حُولت مراكز العلم إلى مصانع لتعليب الفهم، وتلقين التعليم، إلى حد الوصول إلى أجيال لا تعرف سوى الطاعة والولاء، تفتقر إلى الحس النقدي والتجديد والابتكار.

لقد حاصرنا التافهين من كل حدب وصوب بالمشاهد والصور، حتى أصبحت الصورة هي الوسيلة الوحيدة للتفكير، أما الكتابة فهي اليوم غريبة، وأما الكلمات فأصبحت تبحث عن مأوى لها بين الأنامل فلا تجد، حتى أصبح الإنسان المفكر المتأمل العميق مهددًا بالانقراض والاختفاء، فقد بدأنا نعيش عصر انقراض التفكير.
في نظام التفاهة تتغول الشركات متعددة الجنسيات، وتختفي الشركات الصغيرة، وتنهار الشركات البادئة قبل ظهورها؛ فتسيطر الأولى على العالم أجمع؛ لتشكل أكبر تجارة دولية عالمية، وما زاد الوضع سوءًا وتفاقمًا انضمام النقابات العمالية إلى هذه الشركات، فلم تعد تُحارب سطوة رأس المال في يد فئة معينة من الناس؛ بل أصبحت تُهادن وتُشارك هذه الشركات؛ بحيث أصبحوا مستثمرين للحصول على قطعة صغيرة من كعكة النظام السائد.

ولقد انسحب نظام التفاهة أيضًا على نظام الحكم، فنرى الحكومات يُمسك بزمامها معدومي الخبرة والكفاءة، معدومو الوطنية والضمير والأخلاق؛ فيحولون مؤسسات وشركات الوطن إلى شركات خاصة يبيضون فيها أموالهم، تؤازرهم زمرة من الإعلاميين التافهين؛ بحيث يتم التصالح بين الفساد والمجتمع لدرجة تُصبح الفضيلة خطيئة، تستوجب العقاب، والحق باطلًا يستوجب المحاربة، وأما الأحزاب اليسارية التي كانت سابقًا تدافع وتستميت في الدفاع عن العدالة الاجتماعية، جعلتنا اليوم عاجزين عن التمييز بين السياسيين المنتمين إلى اليمين أو أولئك الذين ينتمون على اليسار.

في نظام التفاهة بدلًا أن تسعى المؤسسات إلى استيعاب الموظفين، وزيادة معدلات الدخل، وإنعاش الموارد البشرية، تتجه المؤسسات إلى صرف الموظفين، واختصار النفقات لزيادة الأرباح، نتج عن ذلك ما يُسمى بالهوس المالي؛ فأصبحت النقود هي الهدف، فتكون لها القدرة على تحقيق أي طموحات؛ فأدى ذلك إلى أخطار اجتماعية؛ فظهرت شخصيات تُعاني من أمراض نفسية، تتصف بالجشع والطمع والإسراف.

في زمن التفاهة وسيطرة التافهين هُدمت منظومة القيم، وغاب الأداء الرفيع، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحات من التحديات، واستخدمت لغة طنانة، لا معنى لها، وطغت مصطلحات غامضة بعيدة عن الفهم والاستيعاب، مع غياب أصالة الفكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وللتخلص من نظام التفاهة يجب أن يكون العمل جماعيًا وليس فرديًا، وهو ما يُعرف بالقطيعة الجمعية؛ بحيث يُحارب المحتوى التافه، وتتم مقاطعته وتجاهله وإهماله، والقضاء على المؤسسات والقواعد التي تضر بالصالح العام، وتغيير المنظومات التعليمية كافة بحيث تعتمد على البحث والنقد والتفكير والتأمل، فإن لم نفعل ذلك فلن نرقَ في سلم الحضارة خطوة واحدة للأمام.

https://anbaaexpress.ma/f6zht

رهف محمد حنيدق

كاتبة فلسطينية حاصلة على دكتوراه في المذاهب الفكرية المعاصرة.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى