عبدالله فضّول
حين تتصادم تصوّراتي العقلية، تلك التي تشكّلت عبر سنوات من التراكم المعرفي والتجريب الذهني، مع التصوّر الديني الذي يفرض حضوره بثقة لا تعرف التردد، أجدني منقادًا نحو الاعتقاد، لا عن ضعف في الحجة، بل عن انجذاب غامض لا يفسّره المنطق وحده.
وقد تجاوزت الستين من عمري، ولم يعد العقل وحده مرجعي، بل صار القلب يطالب بحقه في المشاركة، وصار للسكينة وزنٌ لا يُستهان به.
أحاول أن أبرّر هذا الميل، لا للآخرين، بل لذاتي التي اعتادت أن تحاكم كل فكرة قبل أن تمنحها القبول. أراجع مواقفي القديمة، أستدعي نصوصًا كنت أضعها على الرف، وأبحث في أقوال من مرّوا بتجارب مشابهة، من مفكرين وفلاسفة وعلماء، لعلّ في استدعائهم ما يمنحني شرعية داخلية، أو على الأقل يخفف من وطأة التناقض الذي أعيشه.
هنا، يبرز سؤال لا يمكن تجاهله: ما الإنسان؟ هل هو ذاك الذي يفكر، ويظل تفكيره ثابتًا لا يتأثر بتقلبات الزمن؟ أم هو كائن يتشكل ويتحوّل، يعيد تعريف ذاته كلما مرّ بتجربة جديدة؟ وإذا كان التحول جزءًا من طبيعته، فهل الميل نحو اليقين هو نضج، أم هروب؟ وهل التسليم في لحظة ما هو خيانة للعقل، أم استجابة لنداء أعمق؟
ربما لا أبحث عن إجابات بقدر ما أبحث عن انسجام داخلي، عن لغة لا تتصارع فيها المفاهيم، بل تتجاور. فالتفكير لا ينتهي، لكنه يتخذ أشكالًا مختلفة، وقد يكون في الصمت أحيانًا ما يفوق ضجيج الأسئلة. وما أعيشه الآن ليس تراجعًا، بل انتقالًا من مرحلة إلى أخرى، لا تقلّ عمقًا، وإن اختلفت أدواتها.
وهنا أيضًا يبرز سؤال آخر، أكثر إلحاحًا، مرتبطٌ بالعقل ذاته: هل ما يصدر عنه هو انعكاس صافٍ للحقيقة؟ هل هو إنجاز يمكن أن يُعتدّ به بوصفه معيارًا للمعرفة؟ وإذا كان كذلك، فلماذا يختلف حوله المفكرون والعلماء والفلاسفة، رغم أنهم جميعًا ينهلون من منبع العقل ذاته؟ لو كان ما يصدر عنه هو الحق المطلق والمنطق الذي لا يُنازع، لكنا أمام وحدة فكرية لا تعرف التباين، وأمام يقين لا يتشظى في مدارس ومذاهب واتجاهات.
ولكن الواقع يخبرني أن العقل لا يعمل في فراغ، بل يتأثر بالبيئة، والتجربة، والموروث، وحتى بالهواجس التي لا يُفصح عنها. وهكذا، يصبح العقل أداة عظيمة، نعم، لكنه ليس معصومًا، ولا مكتفيًا بذاته، بل هو في حاجة دائمة إلى مراجعة، وإلى ضوءٍ آخر يضيء له ما يعجز عن رؤيته وحده.
في فترة شبابي وعنفواني، كان العقل في حالة اندفاع، لا يرضى بالحدود، ولا يقبل ما يقيّده أو يحدّ من حريته في التساؤل والتجريب. ولهذا كنت متمردًا، محتجًا، أرفض المسلمات، وأشكك في الموروث، وأبحث عن معنى خارج الإطار المألوف.
أجاهر بأفكاري، وأراهن على قدرتي في إعادة تشكيل العالم وفق رؤيتي الخاصة. ومع تقدّم العمر، ومع تراكم التجارب، وانحسار الحماسة الأولى، وتزايد الحاجة إلى الطمأنينة، وجدتني محاصرًا بالاستسلام لما كنت أرفضه، لا عن اقتناع كامل، بل عن رغبة في الاتساق، أو خوف من الفراغ.
أصبح عقلي أكثر حذرًا، أقل صخبًا، وأكثر ميلاً إلى التكيّف. لم يتخلّ عن التفكير، لكنه تخلّى عن الصدام، واكتفى بالتأمل من بعيد، كمن يراقب الحياة لا ليغيّرها، بل ليفهمها على نحوٍ لا يؤذيه.
لا يبقى في القلب سوى رغبة صافية: أن أبلغ يقينًا لا يحتاج إلى جدل، وإيمانًا لا يتكئ على الحجة وحدها، بل ينبع من طمأنينة الداخل.
ومع كل ما راكمته من فكر، وكل ما خضته من جدل، أكتشف أن الإيمان الذي لا يُجادل، ولا يُراوغ، هو ما أحتاجه حين يهدأ صخب الداخل. ذلك الإيمان الذي لا يُصاغ في كتب، ولا يُبرهن في مناظرات، بل يستقر في النفس كما تستقر السكينة في صدر عجوزٍ تجاوزته الأسئلة، ولم تعد تُغريه الأجوبة.
فربما كان دعاء عمر بن الخطاب، حين قال: (اللهم ارزقنا إيمان العجائز)، هو ما يليق بمن بلغ الستين، لا ليكفّ عن التفكير، بل ليمنحه مقامًا آخر، أكثر هدوءًا، وأقرب إلى السلام.
* كاتب وقاص للقصة القصيرة جدا




