آراء
أخر الأخبار

في التحليل النفسي للسياسة

ما الذي يجعل القابلية للتفاهة والاستغباء تزداد في الفعل والنظر السياسيين؟

ما الذي يطلق العنان في عملية الخلط بين التخييل والتحليل السياسي في مشهدية عربية تتواط فيها الهزيمة والهذيان على استقالة العقل والفضيلة عن السياسة كمبدأ والسياسات كممارسة؟

يتعلق الأمر هنا بتنامي غير طبيعي لمعضلة اللاسواء في علائقنا بالعالم والمحيط، حيث آثرنا إعادة إنتاج الوقائع لتستجيب لهروبنا المرضي من ظلنا. العملية التي ساهم كارل يونغ في استبصارها، باعتبارها تنتهي بإطلاق رزم من الرسائل الموحية، والتي غالبا ما تتجاهلها الذات المستأنسة بأعطابها، حيث هنا تغدو ممارستنا أقرب إلى رسائل تفيد في التحليل النفسي وليس في التحليل السياسي.

ليس ما نشهده هنا خلوا من المعنى، بل هو مفيد في القبض على التشكيل العميق للذات العربية السائبة اليوم في برية الهزيمة اللامشروطة، حيث لا زلنا لم نخض حتى اليوم في التحليل النفسي للهزيمة العربية، وآثارها على العقل الجمعي العربي.

ولكننا نكتفي بالملام، والتشنيع والتراشق التبسيطي بالصور النمطية، هنا تصبح الحاجة ماسة لليقظة القصوى، من عدم الاستسلام لهواجس الذات المهزومة، حيث تصبح الكثير من تعبيراتها وسردياتها السياسية والاجتماعية تعبيرا عن وضعية الهروب من الظل.

يبدو أن الجشع ليست له دلالة مادية فحسب، وليس مجاله الأوحد هو السوق، بل للجشع دلالة رمزية أيضا في مجال الرمزي وسوق السياسة. فاختلال آلية التعويض السيكولوجي لها مظاهر شتى، يجمعها الحرص والخوف من نوبات الواقع وانقلاب المصير.

فالذات متى ما اخترقها الضعف ازداد ذهانها وتفاحشت لديها أدوات الدفاع اللاشعورية. تحيط الذات نفسها بالكثير من الأوهام، فهي تهذي في تصورها لنفسها و تهذيب في تصورها للعالم من حولها، وهي تقدم نفسها في صورة هذيانية ملفوفة في حالة استعراضية ممسرحة، تتطلب مهارة في السبر والاستقصاء النفسي.

كنت قد اهتديت إلى فكرة عدم النظر إلى آليات الدفاع اللاشعورية كمسار تتداخل فيه تلك العمليات. ففي كل عملية دفاعية لا شعورية يصبح التبرير وسيلة لا غنى عنها، وهي هنا تكتسي طابعا مزدوجا: تبرير يستهدف إقناع الذات بأوهامها، وتقرير يستهدف إقناع الآخر بأواهم الذات.

هذا مسار طبيعي في الأوضاع الطبيعية، لكن المشكلة تكمن عند اختلال المسار. فالتقمص والإسقاط في نظري ليسا عمليتين مستقلتين عن بعضهما، بل هما مسار واحد متكامل، حيث لا يمكن تصور عملية إسقاط من دون تقمص، والعكس صحيح. فالعدو المرضي قد يتقمص أفضل ما لديك، لكنه في الوقت نفسه يسقط عليك أسوأ ما لديه، فيكتمل المسار، ويصبح التبرير سلسا.

بالعودة إلى الوضعية غير السوية، والغالبة على الذات العربية بما يعني وفاؤها لبنيتها العميقة التي نفذت إليها الهزيمة، حتى بات التعبير عن التحرر يكتسب أحيانا صفة ثورة العبيد، اعادتنا إلى وضعية داروينية عنيفة. يظهر أن الوضعية المغشوشة تحيل إلى البنية المشتركة.

فعند الافتحاص والاختزال والمراجعة، تصبح الذات هي نفسها سواء نزعت ذات اليمين أو ذات الشمال، تشابهت في عدوانيتها، في تملقها، في ازدواجيتها، في تمثلاتها الرخوة والتناقضية..

وللتذكير هنا، فإن تتبع أطياف الذات الهاربة من ظلها، هو جزء من الكفاح الثوري اللامفكر فيه، لتحقيق الانعتاق من أدوائنا المزمنة. هو ضرورة في علاج الذات من عصابها المزمن، حيث تستغل الامبريالية اختلالاتنا النفسية الجماعية في تعزيز هروبنا من ظلالنا، من الواقع، من رؤية الأشياء كما هي.

تكتسي العدوانية طابعا شموليا، غالبا ما يأخذ طابع المؤامرة، وهي عملية كما تبدو في الذات غير السوية، أسهل وسيلة وأخصر طريقة للهروب من الظل.

إن عملية التقمص/الاسقاط، تؤكد على حضور غير سوي للآخر في الذات، حضور لا يسمح يتفاعل سوي مع الآخر ، بل تفاعل مصحوب بالإقصاء والنفي. فالحالة المتمسرحة للذات المختلة تعزز مسارات الدفاع اللاشعورية.

ما الذي يجعل القابلية للتفاهة والاستغباء تزداد في الفعل والنظر السياسيين؟ هل هي يا ترى ميل فطري للراحة والتخفيف من وطأة الشعور المزمن بالهزيمة التي تكرست في اللاشعور الجمعي أم أن الأمر يتعلق بانهيار المناعة المنطقية أمام اجتياح المغالطة؟ لماذا يغلب التهريج على الروية في الخطاب السياسي العربي؟ لماذا تبدو السياسة هاربة من علمها لتصبح تهريجا يوميا على ركح سوق الميديا؟.

لماذا تصاب الأحزاب السياسية بالوهن، ومهما إختلفت توجهاتها تنتهي إلى المصير نفسه، طحالب تطفوا على سطح الماء؟.

لماذا تبدوا الظاهرة السياسية هي الأكثر وضوحا لهذه النوبات الهستيرية مع أنها تبدوا آخر الحقول التي ترصد فيها اختلالات الذات الجماعية؟ هذا التجاهل ينتهي لتعزيز حالة العصاب الجماعي، تصبح السياسة تعويضا مرضيا أكثر من أن تكون فضيلة وتدبيرا.

لقد بات علم نفس السياسة حاجة ملحة منذ فارقت السياسة فضيلتها كما نظر لها سقراط في الاغورا، وافلاطون في الجمهورية وارسطو في الاخلاق الى نيقوماخوس. حين تفقد السياسة أساسها، أي الفضيلة، تصبح حالة انتهازية مرضية، ومجالا مناسبا لتصريف العدوان.

https://anbaaexpress.ma/f5riu

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى