في كل مجتمع ينشد التقدم، لا بد أن تُطرح أسئلة جوهرية عن الإنسان، والعقل، والدين، والمعرفة. ولكننا، في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، كلما هممنا بطرح هذه الأسئلة، وجدنا أنفسنا أمام جدار سميك، لا نراه ولكنه يطوّقنا من كل الجهات: جدار الوعي الديني التراثي الذي تجذّر في النفوس، وتسرب إلى الوجدان الشعبي حتى صار مرجعية لا تقبل النقد، ومصدرًا “مقدسًا” للعقيدة والسلوك.
لسنا هنا بصدد معاداة الدين، ولا انتقاص من إيمان الناس. فالدين حاجة روحية أصيلة في الإنسان، ومصدر للسكينة والمعنى.
ولكن المشكلة تبدأ حين يتحول الدين، من إيمان حيّ نابض بالرحمة والعقل، إلى تراث مغلق تحرسه جيوش من النصوص والتأويلات القديمة، ويفرضه فقهاء لا يقبلون الشك ولا الأسئلة، فيصير الدين عبئًا على العقل، بدل أن يكون نورًا يهديه.
كل محاولات التوعية والتنوير تصطدم بهذا الجدار. فحين ندعو الناس إلى استعمال عقولهم، إلى قراءة النصوص في ضوء الواقع الجديد، إلى إعادة التفكير في بعض الموروثات، لا يُستقبل هذا الخطاب بترحاب أو حتى بحوار عقلاني، بل يُردّ عليه بالشكّ في النوايا، والتشكيك في العقيدة، بل باتهامات “الإلحاد” أو “الزندقة”.
ويصبح صوت العقل في مواجهة تيار جارف من العاطفة الدينية التي لا تفرق بين الدين وبين ما أُلصق به عبر القرون.
لقد تحول الفكر الديني التراثي إلى ما يشبه “السلطة الرمزية” في المجتمعات. سلطة لا تحتاج إلى جيش ولا إلى قانون، لكنها تحكم النفوس من الداخل، وتضبط السلوك وتوجه الوعي. وهي تستمد قوتها لا من الحقيقة، بل من التكرار، ومن توارثها جيلًا بعد جيل، حتى صارت جزءًا من الهوية. وكل من يحاول المساس بها، يبدو وكأنه يعتدي على الذات الجماعية.
وما زاد من خطورة الأمر، أن كثيرًا من رجال الدين ـ أو لنقل بعض “الرحّل” الذين امتطوا الدين لأغراض دنيوية ـ ساهموا في تكريس هذا الجمود، عبر خطاب شعبوي يُغذّي الخرافة ويُعادي العقل، ويدفع الناس إلى العيش في الماضي، بعيدًا عن تعقيدات الحاضر. وهكذا، تراجعت مكانة العقل في الثقافة العامة، بل أصبح التفكير ذاته نوعًا من التمرّد، أو قلة الإيمان.
نتيجة ذلك، أصبحنا أمام حالة مركبة: وعي شعبي بسيط، لكنه معقد في تركيبته؛ يخاف من كل جديد، يرفض التغيير، ويتوجس من السؤال. كيف نُحدث نهضة في ظل هذا الوعي؟ كيف نُطلق التنمية البشرية إذا كان الإنسان محكومًا بتصورات قديمة عن القدر، وعن دور الله في كل شيء، حتى في فشله؟ كيف نبني دولة حديثة إذا كان الناس يعتقدون أن السياسة رجس، والفكر ضلال، والفن فتنة؟
ما لا ننتبه إليه أحيانًا هو أن أي مشروع للتنمية أو الإصلاح، لا يمكن أن يُكتب له النجاح ما لم يلامس بنية الوعي الشعبي، وما لم يُحدث تغييرًا حقيقيًا في طريقة تفكير الناس.
إن الإنسان لا يتطور فقط بالمال أو البنية التحتية، بل يتطور أساسًا بفهمه لذاته وللعالم من حوله. وإذا ظلّ محبوسًا في قوالب فكرية قديمة، فإن كل خطط التنمية ستبقى مُعطّلة، لأن الإنسان – الذي هو جوهر التنمية – لم يتحرر بعد من خوفه الفكري والديني.
ومن هذا المنظور، فإن التوعية ليست رفاهًا ثقافيًا، بل ضرورة حضارية. والتنوير ليس ترفًا نخبويًا، بل مشروع مصيري. يجب أن نحرر الدين من سلطة الفقهاء، وأن نُعيد للعقل مكانته، وأن نُربي أجيالًا على التفكير النقدي، لا على الحفظ والتكرار.
يجب أن نصنع إعلامًا يطرح الأسئلة بدل أن يبيع الأوهام، وتعليمًا يفتح الأذهان لا يُغلقها، ومنابر دينية تدعو إلى الرحمة والفهم، لا إلى التخويف والتكفير.
قد تبدو هذه المعركة طويلة، وقد يبدو التغيير بطيئًا، لكن لا خيار لنا غير المضيّ. فإما أن نبقى أسرى لماضٍ لا يُفارقنا، نُعيد إنتاجه جيلاً بعد جيل، أو أن نمتلك الشجاعة لننظر إلى أنفسنا في المرآة، ونعترف بأن ما نحتاجه اليوم ليس فقط تنقيح النصوص، بل تحرير العقول.
ولأن التنوير مسيرة شاقة، ولأن النور الحقيقي لا يأتي دفعة واحدة، فإن الصبر والعمل والتدرج في التغيير، مع الإيمان بقدرة الإنسان على التحرر من الخوف، هو ما سيُحدث الفرق في نهاية المطاف.
فالوعي لا يُفرض بالقوة، لكنه ينتشر كالضياء، بهدوء لكنه لا يُهزم.