في الوقت الذي كنا نتمنى أن تختنق مجاري اختلاس المال العام، اختنقت مجاري الصرف الصحي في مدن عصرية يا حسرة، كأن قدر المال العمومي دوما أن يبحث له عن مجاري للصرف، سواء كان صحيا أو مرضيا.. كأن لا يجد لنفسه منفذا إلا في جيوب وحقائب المختلسين والمزورين والغشاشين والناهبين، وعلى إيقاع الحكمة العربية “الصيف ضيعت اللبن” يمكن أن نصوغ حكمة تليق بالزمن المغربي على شاكلة ”الشتاء فضحت الاختلاس”.
طرق حديثة مغمورة بالمياه، مدن محاصرة ومعزولة، منازل منهارة وأخرى مهددة بالانهيار، شوارع ممتلئة بالبِرَك والأوحال، وقناطر جرفتها المياه، بنايات حديثة أصبحت مثل جزر تسبح فوق المياه، شوارع حديثة العهد اختنقت مجاريها فتوقفت فيها حركة السير.. ارتفاع مهول في الخسائر البشرية والمادية.. تلك هي حصيلة ساعات قليلة من نعمة المطر الذي حُرمت منه البلاد والعباد، هل بنياتنا بهذه الهشاشة؟
ما أن تعطس السماء حتى تصاب مدننا بالزكام، بما فيها تلك المدن الحديثة ببناياتها المنمقة، بشوارعها وأزقتها التي تبدو أشبه “بالفِيتْرينة”.. لتتحول إلى ما يشبه قرية منكوبة، يستعين فيها الناس بوسائلهم البدائية لإخراج المياه الغزيرة التي حجّت إلى منازلهم، ويصبح المواطن شاهد عيان على اختلالبنياتنا التحتية الهشة، وعلى كل أشكال الغش والتزوير والتزييف لتبدأ المقارنة والترحم على زمن “فرنسيس” و”سْبَالْيُون” وإنجازات المستعمر التي صمدت حتى اليوم! وتلك طامة أخرى تُغْمَر فيها كل فضائل الاستقلال!
لقد تذكرت في غمرة ما عانته بعض قُرانا ومدننا بسبب “قطرات من المطر”، تلك النغمة الاحتجاجية العميقة التي حملتها تظاهرة بسيطة يردد فيها الفلاحون شكواهم: “أمووودير فلاحي.. الحديد الرقيقا، الرملة تربا والقنطرة كذبا..”، لقد عرّى المطر كل المفسدين الذين اغتنوا من الجفاف والمنتخبين الذين كانوا يغشون في مواد البناء، نحن لا يمكن إلا أن نتفهم الكوارث الطبيعية والتي تعاني منها حتى دول كبرى كما يحدث في فلوريدا اليوم.
حيث لا تصمد البنيات الإمبراطورية الصلبة أمام قوة الطبيعة، لكن أن تكون ساعات قليلة من المطر كافية لتكشف هشاشة بنياتنا الأساسية من طرق ومنازل وقنوات صرف.. فهو أكبر “أوديت” لتسيير شؤوننا المحلية، كما لو أن الطبيعة تنوب عن مجالس المراقبة ولجان تدقيق الحسابات، إنها تكشف أمام الرأي العام الأرقام الحقيقية التي صُرفت على هذه المشاريع، وتسقط كل أوراق التوت عن عورات منتخبينا والمسؤولين المباشرين على تشييد بنياتنا التحتية، والحمد لله إنها ليست ”الفوقية”.
أتصور أن كل هبّة من السماء تساهم في فضح أنواع الغش والتزوير، وتكشف أساليب التلاعب والسرقة مع كشف الغمة عما اعترى أحوال الأمة من تدهور في تجهيزات البنيات التحتية.. بعد كل عطسة من السماء، يتحول منتخبونا والمسؤولون عن أحوالنا في الجهات والأقاليم إلى كارهين للسماء التي استعطفناها لتسقي النسل والضرع، سيبغض مسؤولونا المطر، لأنه يعريهم من خلال كشف هشاشة ما شيَّدوه، ومعها كل أنواع التلاعب والتزوير والغش.. إنهم مع الجفاف، حيث هناك من يحرث الأرض مرتين في زمن الجفاف لرفع التكلفة، إنهم مثل الجراد مع القحط الذي يستر عوراتهم وينمي أرصدتهم في البنوك.
أما نحن، المواطنون العاديون الأموات في شبه أحياء، فيبدو أننا بسبب ملايير الدراهم الضائعة في الماء، سنكون غير مسرورين سواء أمطرت السماء أو شحَّت، رغم أن الله سبحانه وتعالى قال: ”وجعلنا من الماء كل شيء حي” ولا نملك إلا أن نصرخ بحناجرنا، في وجه المسؤولين الفاسدين والمنتخبين ممن كونوا ثروات بلا عد ولا حصر على حساب حق من انتخبوهم في الإصلاح وفي بنية تحتية صلبة وخدمات لا تنقطع بسبب زخات من المطر، ونردد بحرقة: “أمووودير فلاحي.. الحديد الرقيقا، الرملة تربا والقنطرة كذبا”!