شاركتُ يوم الجمعة الماضي في أشغال المنتدى المدني الأورو–متوسطي الثاني حول المناخ بالرباط، تحت شعار “العدالة المناخية والانتقال العادل: إعادة التفكير في الحكامة المناخية انطلاقًا من الأولويات الترابية”.
حيث قدّمتُ مداخلة ضمن ورشة: «الإعلام والتضليل المناخي: من أجل تواصل مسؤول ومواطن»، رفقة نخبة من الإعلاميين والخبراء في مجال البيئة.
وقد لقيت مداخلتي ترحيبًا وتنويهًا من طرف المشاركين والحضور، نظرًا للرؤية الحقوقية والإعلامية التي حملتها، وللرسالة الأساسية التي دافعت عنها: أن الإعلام ليس ناقلًا للمعلومة فقط، بل خط الدفاع الأول في حماية الإنسان والبيئة والحق في الحياة.
وفيما يلي نص المداخلة كما قُدمت دون أي تغيير:
“مرحبًا بالحضور الكريم وبكل القائمين على تنظيم هذا اللقاء السنوي في نسخته الثانية، كما يسعدني أن أشارك في هذه الورشة الهامة ضمن أشغال المنتدى الأورو–متوسطي الثاني حول المناخ، والتي تضعنا أمام سؤال جوهري:
كيف يمكن للإعلام أن يتحول من ناقل للمعلومة إلى قوة ترافعية حقيقية من أجل العدالة المناخية وحماية الحق في الحياة؟
ومن هذا المنطلق، سيكون عنوان مداخلتي: “من الحق في المعلومة إلى الحق في الحياة: الإعلام كقوة ترافعية لحماية العدالة المناخية وفق المواثيق الأممية“.
فهذا العنوان يلخص جوهر ما نطمح إليه اليوم: أن يتحول الإعلام من مجرد ناقل للمعلومة إلى فاعلٍ أساسي في الدفاع عن الحق في الحياة، مستندًا إلى المرجعيات والمواثيق الدولية التي تجعل من العدالة المناخية حقًا إنسانيًا شاملًا لا ينفصل عن منظومة حقوق الإنسان الكونية.
أولًا.. أود في مستهل هذه المداخلة أن أؤكد أن الحديث عن العدالة المناخية ليس حديثًا عن البيئة فقط، بل عن مصير الإنسان على هذا الكوكب.
إن التغير المناخي لم يعد مسألة علمية محضة، بل أصبح قضية حقوقية بامتياز تمس جوهر الحق في الحياة والكرامة والعدالة.
ومن هذا المنطلق، فإن الإعلام لا يمكنه أن يظل متفرجًا أو ناقلًا سلبيًا للأحداث، بل عليه أن يتحمل مسؤوليته التاريخية في تنوير الوعي الجماعي، ومواجهة التضليل، والترافع من أجل الحقوق البيئية والإنسانية معًا.
لأن كل كلمة تُقال، وكل صورة تُبث، قد تكون إمّا صرخة إنذار تنقذ حياة، أو أداة تضليل تقتل الحقيقة.
ومن هنا تبدأ مسؤوليتنا الأخلاقية والمهنية في الدفاع عن الإنسان والبيئة بوصفهما وجهين لحق واحد: الحق في الحياة.
نحن اليوم لا نتحدث فقط عن أزمة بيئية، بل عن تحدٍّ حقوقي وإنساني شامل يمس جوهر وجودنا كبشر.
فكل موجة حرّ، وكل جفاف، وكل كارثة طبيعية هي انتهاك صامت لحق الإنسان في الحياة والكرامة.
ومن هنا تنبع أهمية المقاربة الحقوقية في معالجة القضايا المناخية، باعتبار أن العدالة المناخية ليست ترفًا بيئيًا، بل امتدادًا طبيعيًا لمنظومة حقوق الإنسان الكونية.
ويمكن اختزالها في خمسة محاور رئيسية:
1. الإعلام في قلب معركة الوعي المناخي
لقد أظهرت السنوات الأخيرة أن المعركة الحقيقية ليست فقط مع التغيرات المناخية، بل مع التضليل المناخي.
نواجه اليوم حملات ممنهجة لتزييف الحقائق، تُمَوَّل أحيانًا من لوبيات اقتصادية تسعى لتبرير السياسات الملوِّثة أو للتقليل من خطورة الانبعاثات.
وهنا، يصبح الإعلامي الحقيقي هو المدافع عن الحقيقة والحق في المعلومة، لا مجرد ناقل للأخبار.
فالحق في المعلومة المناخية الدقيقة والمستقلة، كما نصّت عليه المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، هو شرط أساسي لتمكين المواطن من المشاركة الواعية في القرارات البيئية التي تمس حياته اليومية ومستقبل أبنائه.
كما أكد إعلان ريو دي جانيرو، بالبرازيل بشأن البيئة والتنمية لعام 1992، في المبدأ العاشر، أن الوصول إلى المعلومات البيئية والمشاركة العامة في اتخاذ القرار يمثلان أساس الإدارة البيئية الرشيدة.
2. الإعلام كقوة ترافعية لحماية العدالة المناخية
لقد أصبح الإعلام اليوم أحد أذرع الترافع الحقوقي الدولي. فكما تدافع المنظمات الحقوقية عن حرية التعبير أو الحق في المحاكمة العادلة، يمكن للإعلام أن يدافع عن الحق في بيئة سليمة ومستدامة، وهو الحق الذي اعترفت به الجمعية العامة للأمم المتحدة في يوليو 2022 كحق من حقوق الإنسان الأساسية.
وهنا، يبرز دور الإعلام في نقل قصص الناس المتضررين من التغير المناخي — الفلاحون الذين يفقدون أراضيهم، النساء اللواتي يواجهن ندرة المياه، الشباب الذين يهاجرون قسرًا بسبب الجفاف.
فهذه ليست قصصًا إنسانية فقط، بل ملفات حقوقية تتطلب الترافع من أجلها إعلاميًا.
إن الصحافة البيئية الاستقصائية وسرد القصص المناخية هما أدوات فعّالة لإبراز هذه المعاناة الإنسانية وتحويلها إلى وعي جماعي وضغط مجتمعي يدفع نحو التغيير والسياسات المسؤولة.
3. التحقق من المعلومة والتصدي للتضليل المناخي
في عصر الذكاء الاصطناعي والشبكات الاجتماعية، لم يعد الخطر في غياب المعلومة، بل في فيض المعلومة المضلِّلة.
ولهذا، فإن تعزيز ثقافة التحقق من الأخبار في المجال البيئي والمناخي أصبح ضرورة أخلاقية ومهنية.
الإعلامي البيئي مسؤول أمام ضميره وأمام المجتمع عن التفريق بين المعطى العلمي والمعطى السياسي أو الاقتصادي، وعن مقاومة الخطابات التي تُهوِّن من حجم الكارثة المناخية أو تُحوِّلها إلى مادة جدلية خفيفة في مواقع التواصل.
إن مواجهة التضليل المناخي هي دفاع مباشر عن الحق في الحقيقة، وعن الحق في الحياة ذاته، لأن المعلومات الخاطئة قد تؤدي إلى قرارات تدمّر البيئة وتضرّ بصحة الإنسان والمجتمع.
4. نحو تدبير مناخي تشاركي قائم على العدالة والمواطَنة
تحدثت اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 بوضوح عن ضرورة إشراك الإعلام والمجتمع المدني في تنفيذ السياسات المناخية، من خلال آليات الشفافية وتبادل المعطيات.
لكن هذا الانخراط يظلّ ناقصًا ما لم يُترجم إلى استقلالية تحريرية وتمويل مستدام للصحافة البيئية، بعيدًا عن ضغوط الحكومات أو الإعلانات التجارية.
فنحن بحاجة إلى إعلام مسؤول يوازن بين الاستقلالية والالتزام بالقضايا الإنسانية، إعلام لا يُسَوّق الخوف بل يُنتج الوعي، ولا يكتفي بالبثّ بل يصنع التغيير.
5. الرؤية الحقوقية المستقبلية
من المنظور الحقوقي، يمكن القول إن العدالة المناخية هي أسمى أشكال العدالة الاجتماعية، لأنها تضع الإنسان في قلب السياسات البيئية.
وعندما نقول “الحق في الحياة”، فنحن نقصد الحياة الكريمة، المستدامة، النظيفة، والعادلة.
من هنا، يصبح واجب الإعلام هو الانتصار للإنسان قبل الخط التحريري، وممارسة الصحافة كفعل مواطنة ومسؤولية جماعية.
إنها معركة الوعي ضد التزييف، ومعركة الحقيقة ضد المصالح، ومعركة الحياة ضد اللامبالاة.
بالإضافة: سبل الوصول إلى المعلومة المناخية
فإن ضمان الوصول إلى المعلومة المناخية يشكّل اليوم ركيزة أساسية لتحقيق العدالة المناخية.
وقد شددت المواثيق الدولية — من المبدأ العاشر لإعلان ريو إلى اتفاقية باريس — على أن إتاحة المعلومة البيئية حقّ يمكّن المواطن والإعلامي من المشاركة الواعية في صنع القرار.
ولتحقيق ذلك، تبرز ثلاثة مسارات رئيسية:
1. تعزيز الشفافية المؤسساتية عبر نشر البيانات والمعطيات المناخية بشكل مفتوح ومتجدد.
2. دعم الصحافة البيئية وتمكينها من الولوج إلى المصادر العلمية والمؤسسات الرسمية دون عراقيل.
3. تعزيز آليات التحقق من الأخبار لمواجهة التضليل المناخي وضمان إنتاج معلومة دقيقة ومسؤولة.
فالمعلومة المناخية ليست مجرد بيانات، بل هي حق إنساني وجزء لا يتجزأ من حماية الحق في الحياة.
ختامًا: لقد أصبح واضحًا أن الإعلام هو خط الدفاع الأول عن العدالة المناخية.
وإذا كان صانع القرار يمتلك السلطة، فإن الإعلامي يمتلك القوة الناعمة للحقيقة، القادرة على التأثير والتغيير.
فلنجعل من الإعلام منصة لتنوير المواطن لا لتضليله، ولنجعل من الكلمة الحرة وسيلة للدفاع عن حق الإنسان في الحياة.
ولنتذكر دائمًا أن البيئة ليست قضية تقنية أو علمية فحسب، بل قضية كرامة إنسانية وعدالة كونية” – نهاية المداخلة.
وجدير بالذكر في المداخلة، دعوتُ إلى جعل الإعلام خط الدفاع الأول عن العدالة المناخية، وإلى ممارسة صحافة مسؤولة تُواجه التضليل المناخي وتنتصر للحق في الحياة.
وشدّدتُ على أن البيئة لم تعد ملفًا تقنيًا فقط، بل قضية كرامة إنسانية وعدالة كونية تستدعي من الإعلاميين الوعي بوزن الكلمة، ومسؤولية الصورة، وأهمية المعلومة الدقيقة في حماية المجتمع وصناعة مستقبل أكثر عدلًا واستدامة.





