آراءمجتمع
أخر الأخبار

من الجنون إلى الشّمال!

بعد ست نزوحات من التنقُّل والتَشَرُّد بين خانيونس ورفح والمواصي والزوايدة ودير البلح، وبعد دوران حول كوكب غزّة على مدار 500 يوم من مكان إلى مكان ومن خيمه إلى خيبه.. وصلنا غزّة!

على غير المُتوقع ودونَ ترتيب مُسبق أصدر ‘الكابينيت العائلي’ قرار العودة، وكما كل قرارتنا الرباعية المُستقلة، اجتمعنا أَربعتنا.. أكرم،أماني، خالد وكارمن، صوّتنا بالإجماع، وكان القرار بالأغلبية المطلقة.. راجعين لبيتنا.. لحيّ النصر.. لغزّة!

تَفاجَئ من تَفاجئ من سرعة القرار ومن هول المشي والمجهول والرحلة الشاقه التي تنتظرنا، وكنت اتفقت ليلاً مع صديقي محمد حرز أبو فراس أن يأتينا عند السادسة والنصف صباحاً ليأخذنا بسيارته لتَبّة النويري وننطلق منها سيراً على الأقدام، رفض أن يأخذ أُجرة الطريق وبعد أن أصريت عليه اكتفى بثمن اثنين كيلو غاز و الله يابو خالد ما بدي غير توصلوا بالسّلامة وأنا إن شالله أوّل ما يطلع إسمي بكشف الغاز الجاي وراك على غزّة جراي..

وصلنا “تَبّة النويري” نزلنا من سيارة أبو فراس وكل منّا يحمل ما يحمل على ظهره، فقد كنا اتفقنا في الاجتماع الاكتفاء بحمل “أربع قزايز ميّ” وأربع شنط فَقَط ونبدّل سوا ونريّح بَعَض..!

بَدَأنا المشي والتقاط الصّور على البحر، الجو راقي جداً “شيك ع الآخر”، نسمات باردة لكن لزيزة، والشّمس يا دوبها بتتاوَب، إحنا الأربعه سوا وهو اسم جروبنا على واتس أب من قَبل الحرب ماشيين، مَبسوطين، مَصدومين وإن شئتم الدّقه ‘مَهبولين’ مش مصدقين إنّو مروحين على بيتنا على غزّة.. على النّصر !.

مشينا الوادي، وشممنا رائحة المجاري لكنها لم تُؤذينا، رُبّما تَعَوَّدَت حاسّة الشّم، ورُبَّما لأنَّ حواسنا لم تكن معنا تلك اللحظة.. لم نمشي أكثر من عشرين دقيقة حتى وَجَدنَا سيدة وثلاث صبايا كُنّا لمحناهم مُشاة في الوادي مع شنطة صفراء كبيرة يتفاوضوا مع صاحب توكتوك على أجرة الطريق.. لوهله نسيت وأماني وخالد وكارمن ما كان حَذَّرنا منه أبو فراس.. إوعه تركب يابو خالد توكتوك..

صحيح بحكوا في كارات وتَكاتِك بس خطر ممكن يقصفوهم على شارع البحر..! لا أدري كيف نسينا تحذير أبو فراس ومن قَبله تحذير صديقي الصحفي فؤاد جرادة أبو كمال عبر مكالمه ليليّه كان نصحني فيها بالسّير على الأقدام وفي أسوأ الأحوال كارّة بحمار..!

ودون سابق إنذار وبشكل لاإرادي جَذَبَنا حديث السيّدة مع صاحب التوكتوك.. قَنَصتنا بعينها وقالت: تتشاركوا معنا بأُجرة التوكتوك..؟ طلب 170 شيكل ووافق ينزلها 150 يعني كل عيله 75.. ودون تفكير نسينا التحذير، ورمينا الشُّنط وقفزنا معها على سطح التوكتوك.. وافقنا دون حتّى أن نتشاور ودون أن نأخذ بنصيحة أبو فراس وأبو كمال.. يبدو أننا فقدنا عقلنا من الفرحة!

تَحَرَّك التوكتوك.. وكان يتمايل فينا كما قارب وسط أمواج البحر ، فالشوارع اختفت، والطرق متموجه، مطعوجه، ونحن نَطعَج معها، حتى أنّي بدأت أشعر بالنّدم، أَخْبَرنَا صاحب التوكتوك أن يُخَفّف السرعة خشية من سقوطنا في الوحل، رد ساخراً معكو حق مش حلوة بعد سنة ونص حرب وقصف وبالآخر يحكوا ماتوا بحادث توكتوك..!

ضَحكنا ونحن ننشَف من هواء يلسع المناخير، وأرجلنا تَخَدَّرَت من وضعية الجلوس ، كُنّا عشرة على توكتوك، وطول الطريق ‘..يا خيبتي كُنّا بدنا نمشي كل هادا..!’ ومن أول عشر دقائق في التوكتوك اكتَشفَت أماني أنّها تعرف السيّدة التي تَركَب معنا، بَدَأت أَنصت لحوار بين أماني والسيّدة انتهى فوراً بأحضان ودموع على سطح التوكتوك..!

أَخَذَت أماني تُعرّفها علينا، تَرُد السيّدة ..زوجك أكرم! الكاتب.. يا الله يا أماني..’ وأَخَذَت تَنظُر لخالد وكارمن وتقول بِلَكنَه مصريّه لطيفه ‘أنا صاحبة ماما وبنعرفكو منيح من كتابات بابا..

فرحنا بتجديد تعارفنا على رنا وورداتها الثلاث مريم ورؤى وآرزو وشنطتهم الصفراء، وبدأنا نوثّق بجوالاتنا اللحظة والمدينة التي وَقعَت على الأرض، والأرض التي كاد يقع عليها التوكتوك وهياكل عضميّه لعمارات وبنايات وأبراج ومَشهَد لا يوصف من الركام والخراب والدّمار..!

وَصلنا مفترق ال 17 وَوَدَّعنَا رفاق التوكتوك وتبادلت أماني معهم القبلات وأرقام صاحب التوكتوك فربّما يلزم أحدنا إن قرّر العودة بعد العودة..!

نادى عليّ صاحب التوكتوك ..بس إوعه تجيب سيرتي إنو أخدت منكو 150 شيكل..! ضحكت وأخبرته أنّي لن أكتب ذلك!..

وضعنا الشّنط فوق ظهورنا وبَدَأت أسأل المارّة عن الطريق الأسهل لموقع بيتنا، وبينما أسأل وجدت سيارة مجعلكه، تَوَجَّهت لشُّباك السائق ‘..طالع؟’ فردّ كما يَرُد الغزّاوي ‘وين يا خال..؟’ على النّصر، رد عليّ ‘لا والله طالع صحابه’، نَتَعت شُنطي على ظهري ومشيت، نادى عليّ ‘خال تعال..’  قديش تِدفع، أخبرته ‘خود زي ما بتاخد من النّاس ومش مفاصلك..

فردّ عليّ 130 شيكل من الآخر، ودون تَردّد أخذت أُنادي على خالد وأماني وكارمن تعالوا، ارموا الشنط ورا واطلعوا.. طلعنا بعد طلوع روحنا من كل شيء..!

لحظات لا توصف شاهدت كل شيء في غزّة لكنّي لم أرى غزّة، وكأنَّ أحداً مضغها على عجل..! بتنا على بُعد دقائق من البيت، خَفَقَت الرّوح وخَفَقَ القلب وارتعش الجسد، ثَمّة قَشعَريرة، ثَمّة دموع في الحلق، ثَمّة شعور لم أستطع التعبير عنه سوى أنّي أَخذت بالضّحك الهستيري والصراخ..!

وَقفنا وكأنّنا نقف للنشيد الوطني، تَمَسمَرنا أمام بيتنا، بَكينا، قَفزنا، دَخلنا وَعَبَرنا البيت وكأنّنا نكتشفه للمرّة الأولى، كأنّنا ندخل متحف، عَبثنا بكل شيء فَتحنا أبواب الخُزن وأدراج المكتب مَسَكنا الكُتب والأشياء والأواعي والألعاب كأنّنا نمسكها لأوّل مرّة، لَحسنَا الحيطان والدرابزين والجُدران، صافحنا الكَنَب والغسّالة والثلاجة رغم انقطاع الكهرباء وشح الماء وخشونة العيش والبقاء ونِمنَا بعد 500 يوم على تَخت، أَعلنّا استقلالنا التّام وَرَفعنا تُرابنا وزجاجنا المكسور وأَدينَا نشيدنا العائلي “إحنا الأربعة سوا” وبعد 500 يوم من مكان إلى مكان ومن خيمه إلى خيبه عُدنا إلى وطننا الحقيقي ‘بيتنا’ ونِمنَا أخيراً على تخت شرقي..!

بيتنا حي النّصر غزّة فلسطين المحتلة

https://anbaaexpress.ma/e2203

أكرم الصوراني

كاتب فلسطيني ساخر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى