لا أعرف لماذا أستأهل أنفٌ روايةً من الروسي نيقولا غوغول. يشهدُ الله إنّي لستُ حاسِداً فعيني مشغولة بماركيز اللاتيني، الكولومبي الجنسية. الاثنان لعنة على عُنقِ جميع الكُتَّاب إلى يوم الدين. أُراهن بأن جميعهم يتمنى شظيةً من لعنتيهما تدخلُ أصابعهم، لبري أقلامهم من كتابة كُل الأشياء التافهة و الاستيلاء على مخزون العبقرية المُخمَّر في أقبية الحياة و التاريخ.
عوداً على بدء، أريدُ أن أنُصِّب محكمة تاريخية لمحاكمة أنف غوغول. لا يقِل لي أحد إنَّ غوغول أعطى ذو المنخرين بُعداً كونياً. أنفُ غوغول شفط كُل الأوكسجين الكوني و ترك الأنف العراقي بلا رواية. دعوني أُعرِّفُكُم على الأصل، بعد رشفِ جُرعة من نبيذ رواية الفرنسي إدمون روستان التي نقلها المصري مصطفى لطفي المنفلوطي إلى العربية؛ رواية (الشاعر سيرانو دي برجراك). مختصرُ الرواية أنَّ الجميع فيها يُقاتِل الجميع و هو يُلقي الشعر.. لا فرق بين نبيلٍ و لص.
البطل الحقيقي ليس سيرانو كُلَّه كما قد يوهِمُنا العنوان بل أنفُه. طيلة الفصول خصوم سيرانو الذين كان يصرعهم بالسيف و القصيدة دِفاعاً عن كرامة أنفه، خرجوا من منخاريه اللذين شكَّلا مع بقية أنفه “ميني/ Mini” شمَّامة.
أيضاً، إذا كنت يا شقيقي العربي تسكنُ في الغرب و صادف أن تشاجرت مع جارٍ لك فرنسي أو روسي، إيّاك أن تُفجِّر مواهبك الصوتية و أنت تعلمُ إنَّ لديك أخاً عراقياً في الحي، إذ ستجِدُ نفسك أمام معادلةٍ رياضية: صوتك العالي سيتناسبُ طردياً مع سواد الكدمة في أعين جيرانك.
المتشكِكون بُقدرة هذهِ الأنوف على الإيثار عليه أن يتحضَّر لحسدٍ لاتيني. هل تعلم عزيزي القارئ إنَّ لديها قُدرة على جذبِ قلوب النساء.. و دليلُنا محتلٌ أمريكي. وزير الخارجية الأمريكي و مستشار الأمن القومي الأسبق هنري كيسنجر استغرب في مُذكَّراته من ولع النساء به، بعد حيازته للوزارة مباشرةً. علَّق بما مفاده “هل من المعقول إنّي بتلك الوسامة؟”.
أصرَّ على أن وسامته لها صِلة بانجذاب النساء إلى رائحة الرجال الأقوياء، و لكن كيف كان لأنفه الذي كان بحجم رُبعِ شمَّامة صغيرة جدّاً أن يسمح بهروب روائح القوَّة من منخريه؟
لستُ مغالياً إذا نصحتُ جميع الشباب العربي بإجراء عمليات تجميل بلاستيكية لأنوفهم لجعلها قريبة من حجم ميني شمَّامة. لكن عليهم إجرائها في عيادات أمنهم الاجتماعي و التاريخي، بعيداً عن نفخ بوتوكس التغيير في أقدامهم السياسية.
سوف أُقدِّمُ لكم نُبذة أسباب عن هذه النصيحة. الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وفَّر للعراقيين عيادة تجميلٍ ديمقراطية لأنف 2003. في سوق العراق المزدحم بمراكز التجميل، كانت النتيجة الطبيعية إننا بعد مدَّة لم نعُد قادرين على منافسة المسؤولين.. قادة البلاد و مُذلِّيْ العباد.
مثلاً وليس بخلاً في توضيح أثر البوتوكس، سمعنا سياسيَّة عراقية تقول “كُلنا أخذنا كومشنات”. ترجمةُ ذلك للقارئ الصبور “أموال نقدية أو حصَّة من المشروع، لضمان حصولك على عقدٍ حكوميٍ مُغري” و للأمانة فإن العراق بذلك يطبق الأممية الشيوعيَّة بالخط الإسلامي.. لا فرق بين عربيٍ و أعجمي إلَّا بـ “الكومشن”. سياسيٌ آخر لا يقاضي الآخرين عشائرياً على أُمميته، اشتهر بتصريحه السوبر جريء عن الرِشوة و عُملة الدولار “كُلنا أخذنا رشاوي” اللتين لم تتركا غصَّة في قلب مسؤولٍ عراقي.
السياسي نفسه صرِّح في الأيام السابقة، و عبر الأثير الإعلامي بما مفادُه ” بأن أفضل المُرشَّحين لمنصب محافظ صلاح الدين عليه ملفات فساد و تدعمهُ شخصية شهيرة معروفة بأنها توهِب العباد خاصَّة عشيرته ما هو حقٌ للبلاد”.
كانت فضيحة “كوبونات” النفط التي وزَّعها النظام السابق على فنانين، شعراء، و مثقفين عرب قد سُرِّبت بعد عام 2003 على الملأ، لإعطاء جُرعة سريعة من نبيذ الشرعية للنظام المتأسلم الذي أثبت بأنَّ الدُّولَرَة و بقية العُملات الأجنبية طريقٌ آخر للسماء، المُفرغة من الحِسان و الولدان المُخلَّدين.. ربّما لأنهم حصلوا على عقود عملٍ في البلاد.
أسأل: هل كوبونات المال العام الذي يتم الحديث عن سرقته علناً أكثر ديمقراطية و إسلامية من النظيرة النفطية في عهد النظام السابق؟
الضابط البريطاني ستيفن هيمسلي لونغريغ الذي عمل مفتِّشاً إدارياً في العراق لسنين طويلة، أبدى دهشته من قُدرة العراق على النجاة من “ضربات القدر الخارقة” التي تعرَّض لها عبر التاريخ. تخيَّل أيها القارئ بحسب الضابط “جوني” وهي كناية يستخدمها المصاروة للعسكري البريطاني بينما يستخدم أهل الشام “توني” ككنايةٍ نظيرة، إنَّ الأنف الديني للعراقي لم يكُن “متطرِّفاً في مذهبيته” رغم إنَّ العثمانيين و الفرس استخدموا خديَّه كقبضات في صراعهم الجيواستراتيجي.
الأنفُ العراقي و على اعتبار إنَّه لا يوجد عراقيٌ بدون أنف، كَشَفت الكاتبة اللبنانية هاديا سعيد كم هو ذوَّاقةٌ هذا الأنف في شمِّ رائحة الأبطال “العراقيون أبطالهم من ورقٍ و تاريخ لا لحمٍ و دم”.
هذه الجملة العبقرية ذات النوايا الانتقادية بالتمام و الكمال، تُفصِح بدونٍ قصدٍ عن الحاجة إلى أن تكون هناك موجة أولى من الأبطال في العراق مثل جميع العراقيين الذين شاركوا في ثورة تشرين و أيَّدوها، و الذين ذهبنا إلى تأريخهم و تصنيفهم بسرعة رغم كُل مصائب قلَّة الوعي السياسي و فضائح بعض أفرادِها البارزين في لعق أحذية المُدوُّلَرين، عسى أن تكون موجة الأبطال الثانية أكثر نقاءً بالدينار العراقي وأكثر عجزاً في الألسُن الطويلة التي استطاعت قطع المسافة من ساحة التحرير إلى خضراء الدَّمَنِ (حسناء في منبت سوء) برمشةِ عين.
المُفارقة إنَّ بعض الدول العربية و على رأسها الإمارات العربية المتحدة و سوريا كان لهما مع الأنف العراقي الذي شوَّهوه بوتوكس 2003 و حتّى قبل ذلك التاريخ للإمارات (حسب علمي) تعاملٌ رفيع. رغم كُلِّ ظروفه سَقَياهُ فُنجان خير من دِلالهم و أحياناً كُثر أعطوه الدِلال ليأخذ كفاية أنفه.
بعد هذه المُرافعة أصبحت أفُكِّرُ جدياً بالحصول على درجة أكاديمية في القانون الدولي للأنوف، لكني سأنتقي زبائني من المنطقة العربية بعد قياسِ أنوفهم بأنفي، و بدون تقبيلها بـ بوتوكس الربيع و تجميل أنوف الحسنات الصغيرة كشمَّامة إنجازات.
أتمنى لأنوف جميع العرب رِفعةً كغزة و شاعريةً كـ محمد مهدي الجواهري و عبد الرزاق عبد الواحد و حياة سياسية خالية من بثور كوبونات المال العام.