آراءثقافة

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات.. إشكالية المقاربة (20)

أصبحنا أمام حروبا مقاصديّة تتجاوز حروب التأويل، ولقد جمدت الأسس ولم يطرأ أي تجديد على الأصول

لم يحقق هذا العقل القياسي الرغبة في فكّ الإنسداد، فعلى صعيد الفقه انتهى بغلق باب الإجتهاد ليس فقط تبرّما من فكرة الاجتهاد بل درءا للفوضى وحفاظا على ما تبقّى من مصداقية، فلقد جرّ الاجتهاد بناء على القياس سلسلة من التّشوّهات انتهت بحصره بعد أن أصبحنا أمام حروبا مقاصديّة تتجاوز حروب التأويل، ولقد جمدت الأسس ولم يطرأ أي تجديد على الأصول.

ودعك من الدعوة لعصر تدوين جديد إن كنّا لم نفعل سوى تحيين ممنهج للأسس نفسها، وهي عندي عبارة عن قراءة مختلفة للأسس نفسها بل هي محاولة لإعادة إنتاجها وفق درجة أخرى في سلمّ حجاجي نستطيع تدبيره بعقل قياسي لم نخرج منه البتّة، ولئن كان ولا بدّ من منطلق لمعالجة جملة شواغل ومشكلات العقل العربي والإسلامي، فلنقرؤه في ضوء بنية العقل والتفكير، وهل فعلنا أكثر من ممارسة القياس والتمثيل؟

وسنجد أنّ دعوى السلفية هي قياس مُغالط على دعوى السلف الصّالح، لا نحسن أن ننشيء تجربة معاصرة مع تعاليم قلنا أنّها كونية، سنعيد إنتاج سير ظنّية ونقيس الغائب على الشاهد، وحين نقترب من الشّاهد سنجدنا هو نفسه ذلك الوسط المفقود، الجامع المظنون، الحجّة الغائبة.

ولا تذهب بك الظنون والخداع لتتحدّث في بيئتنا عن نمط سلفي وآخر مُغاير في المنهاج بل يكاد العقل القياس أن يكون منهجا سلفيا -لا سلفية من دون قياس التمثيل – شاملا يصيب السلفية ومن يشاركها المقاصد والذّوق والتربية في مقطع من مقاطع الحنين والوفاء للجامع المظنون في قياس منزاح.

بهذا المعنى للسلفية المبنية على القياس سنلغي التّاريخ والشروط التي تقتضي نظرا متجددا واجتهادا يلاحظ الزّمان والمكان، سنلتفّ على استحقاقات المستقبل بقياس متضخّم على الماضي، ذلك الماضي الذي يعجّ بالأقيسة ذاتها، ذلك الماضي الذي خضع لمقاصد وأهواء وهو يفرض بالقياس نفسه. وسنجدنا أمام النمط نفسه من تهريب المفاهيم حين يتحدّث أهل القياس عن التّاريخ والمستقبل والعقل والاجتهاد، سيستعملون كلّ هذا الحطام من المفاهيم لأنّهم غير جادّين في الحسم والاختيار ولا يتمتّعون بالشجاعة من أجل المعرفة ولا بقيم الفرسان التي تحول بينهم وانتحال صفة المجدّد على أرضية رخوة من فرط التمعقل القياسي.

سننتج خطابا على أرضية قياس هو هنا يساهم في إعادة إنتاج الخطاب، سنفكّر كما كانوا يفكّرون، ولكي ينضبط القياس سنغيّر ملامح التّاريخ وحقائقه، وبهذا القياس سنلبس كما كانوا يلبسون، سنتمثّل سيرة السّلف بالجملة، سنتمثّل قواعدهم في التّعلّم والمعرفة، سنتمثّل الخلافة بأدوات العنف، الإرهاب هو نفسه منتج لقياس على سيرة الأوّلين، فالتّطرّف يمتاح صوره داخل هذا القياس، ففي إدارة التوحّش لداعش بنى القوم على عنف أبي العباس السفّاح، فلقد رأوا في نهجه مقصدا صالحا للقياس عليه معتبرينه من السلف، وإن لم يعتبروا موقفه صالحا لكنهم اعتبروا أسلوبه صحيحا: لأوّل مرّة تكون الوسيلة مشروعة والغاية غير مشروعة، لا شيء كما قلنا خارج عن القياس، ومن ذلك القياس على الخلافة في معارك الاستخلاف، وإقامة الحدود دون استحضار فقه الزمان والمكان، فإنّ مالت مقاصدنا للعنف قسنا على عنف الأوّلين وإن مالت للمراجعات والتدليس قاست على تدليس الأوّلين، سلفية مندمجة وأخرى منشقّة، بعضها يقطع الرؤوس وبعضها الآخر يلعب الورق، لا شجاعة معرفية لمعالجة أخطاء من مضى ولا شجاعة معرفية لمعالجة تحدّيات المستقبل، ننظر بين أيدينا فلا نجد في جعبتنا سوى محصول تاريخي من أقيسة إبليس.

https://anbaaexpress.ma/dcpi1

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى