آراءسياسة
أخر الأخبار

أوروبا.. تحرم مواطنيها من الدفء

المفارقة أن هذه الحساسية السياسية تختفي تمامًا عندما يتعلق الأمر بـالكيان الصهيوني، إذ سرعان ما تعلو أصوات المثقفين والإعلاميين الأوروبيين لتُذكّر بأن "السياسة يجب ألا تتدخل في الرياضة أو الفن"، وكأنّ المعايير الإنسانية قابلة للانتقاء حسب هوية المعتدي ومقدار النفوذ الذي يتمتع به في دوائر القرار الغربي.

شادي منصور 

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وجدت أوروبا نفسها أمام معادلة قاسية: دعم كييف سياسيًا وماليًا وعسكريًا من جهة، وتحمل التبعات الاقتصادية والاجتماعية لهذا الدعم من جهة أخرى.

ومع مرور السنوات، بدأ المواطن الأوروبي يشعر بأن هذه الحرب التي رُفعت رايتها باسم “الدفاع عن الحرية والديمقراطية”، تحولت إلى عبءٍ ثقيل يُثقل كاهله يومًا بعد يوم.

منذ السنة الأولى للحرب، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكل غير مسبوق، وبدأت أزمة الطاقة تضرب القارة العجوز في صميم حياتها اليومية. فبعد أن كانت أوروبا تعيش في وفرةٍ ودفءٍ بفضل الغاز الروسي الرخيص، وجدت نفسها فجأة في مواجهة شتاءٍ باردٍ ومصاريف مضاعفة. مُنعت المدافئ في المقاهي والمطاعم، وأُطفئت التراسات التي كانت تعج بالحياة في ليالي الشتاء، بينما ارتفعت فواتير الكهرباء والغاز لتصبح كابوسًا شهريًا يطارد العائلات وأصحاب المصالح الصغيرة على حد سواء.

لم يقتصر الأمر على الطاقة فحسب، بل طالت الأزمة كل جوانب الحياة. فأسعار المواد الغذائية ارتفعت بما يفوق الثلاثين في المئة، خصوصًا الزيوت والخضروات والمنتجات الأساسية.

هذه الزيادات لم تكن نتيجة عوامل السوق الطبيعية، بل انعكاساً مباشراً لسياسات المقاطعة والعقوبات التي تبنتها الحكومات الأوروبية ضد روسيا، والتي ارتدت عليها بنتائج عكسية. أصبح المواطن الأوروبي اليوم يدفع ثمن قرارٍ لم يُستشر فيه، يراه كثيرون حربًا لا تعنيه.

في المقابل، تواصل الحكومات الأوروبية ضخّ مليارات اليوروهات في دعم أوكرانيا، التي تختفي في دهاليز الفساد، في الوقت الذي تتزايد فيه معدلات الفقر والاحتجاجات داخل بلدانها.

في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، بدأت أصواتٌ تعلو متسائلة: إلى متى سيستمر هذا النزيف المالي؟ ولماذا يُطلب من الأوروبيين التضحية برفاهيتهم من أجل حربٍ لا يملكون قرارها؟ حتى وسائل الإعلام التي كانت تبرر الدعم غير المحدود لكييف بدأت تُظهر مؤخرًا بوادر تشكك وتساؤل حول جدوى الاستمرار في هذا النهج.

لم يتوقف الانحياز الأوروبي عند حدود الاقتصاد والسياسة، بل امتد إلى ميادين الثقافة والرياضة والفن. فقد مُنعت روسيا من المشاركة في جميع الفعاليات الثقافية والرياضية العالمية، ووصل الأمر إلى حدّ منع استيراد المراحيض الروسية، في خطوةٍ عبثيةٍ تُظهر إلى أي مدى فقدت أوروبا توازنها الأخلاقي، وغرقت في ازدواجية المعايير حتى في أبسط تفاصيل الحياة اليومية.

المفارقة أن هذه الحساسية السياسية تختفي تمامًا عندما يتعلق الأمر بـالكيان الصهيوني، إذ سرعان ما تعلو أصوات المثقفين والإعلاميين الأوروبيين لتُذكّر بأن “السياسة يجب ألا تتدخل في الرياضة أو الفن”، وكأنّ المعايير الإنسانية قابلة للانتقاء حسب هوية المعتدي ومقدار النفوذ الذي يتمتع به في دوائر القرار الغربي.

الولايات المتحدة الأمريكية، التي أشعلت فتيل الأزمة، وساهمت في تصعيدها عبر تحريض كييف وتوسيع نفوذ حلف الناتو شرقًا، وجدت في الحرب فرصة لإضعاف روسيا وإعادة رسم ميزان القوى في أوروبا.

غير أن النتيجة كانت أن واشنطن استفادت اقتصاديًا من بيع الغاز المسال بأسعار مضاعفة للأوروبيين، فيما دفعت القارة العجوز ثمن القرار الأمريكي من جيوب شعوبها.اليوم، يعيش الأوروبيون واقعًا لم يألفوه منذ عقود: شتاء بارد بلا دفء، اقتصاد متباطئ، ومخاوف متزايدة من المستقبل.

لقد أصبحت الحرب في أوكرانيا بالنسبة لهم مرادفًا للأزمة لا للبطولة. وكلما طالت، كلما ازداد الإحساس بأنها حرب عبثية، تخدم مصالح الآخرين أكثر مما تحمي قيم أوروبا أو مواطنيها.

يبقى السؤال المعلق في أذهان الملايين: متى ستدرك أوروبا أن الحروب لا تُكسب بالنيابة، وأن خسارة دفء المنازل وكرامة العيش هي أثقل بكثير من أي نصرٍ سياسي مزعوم؟

https://anbaaexpress.ma/dbcse

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى