آراءثقافة
أخر الأخبار

سوق القش.. أبا ذر آدم الطيب

لفت نظري الأسلوب التجديدي للنص في رواية “سوق القش” بمعنى النقلة الفكرية في تحسين الأداء مع تجويد السبكة والحبكة مقارنة مع ما سبق من اصدارات الكاتب الواعد الأستاذ أبا ذر آدم الطيب، السابقة مثل “الدخان” التي انتقل فيها من شاكلة المذكرات اليومية أو تدوين الأحداث اليومية في قالب قصصي قصير النَّفَس إلى طفرة جديدة جيدة طويلة النَّفَس تحسب له بلا ريب إلى لونية تتجه اتجاهاً إيجابياً مباشراً نحو التعمق في فن كتابة الرواية، وكذلك عمله “المنظرون” التي انتقل فيها من قالب المخزون الأخلاقي وكيفية التعامل معه وهي قضية جوهرية في التعامل مع كبار السن وقواعد التربية والسلوك والمعاملة وحسن الجزاء..

إلى سوسيولوجية نقل حياة الواقع في قالب روائي يميزه ببصمته حين يعرف بالبيئة والمجتمع والمكان ليعالج قضية مهمة في تقديري وهي قضية الطموح القروي غير المحدود لمصاف الحضري مع التعرض لبعض المقارنات غير المكتوبة بين الواقعين واقع حياة البداوة وواقع حياة المدينة لكنك تحسها بشغف ورضا بين الأسطر.

لعل ما دفعني لكتابة هذه الكلمة هو الشعور المعاش المتنقل بين الحياتين في رواية “سوق القش” لأنني عشت الحياتين زماناً طويلاً بيد أني لم أولد في القرية لكني انتقلت لها بعد المرحلة الجامعية لظروف العمل الميداني لكن تأثري بتلك الحيوات لا زلت أجد صداها في نفسي وأخرجها من مكامنها بطل رواية “سوق القش” الضوَّاها السروري..

وكأنَّ الراوي يجبرك على التأقلم مع حركة النص المتنقل ما بين الطموح الوثَّاب إلى تحقيق الحلم الذي ربما تعسَّر على آخرين من أبناء القرى وهو الوصول إلى الرقمية الحضرية، أو إن شئت المستوى المجتمعي المدني المميز الذي يجد أثره ظاهراً إنسان الريف حينما يقتات لا “من سندوتشات الطعمية عند جاويش” لكن يقتات من فتات المدينة “كرش الفيل” فلك أن تبتسم فأنت في الخرطوم “محل الرئيس بنوم والطيَّارة بتقوم” كما أشار إلى ذلك صاحبنا أبا ذر الطيب.

تصوير الأحداث بالنسبة للنص وإن كان المؤلف مهموماً للغاية بتوصيف المكان وهو البيئة لأبعد غايات الاهتمام وقد أشرت أنا إلى ذلك معرض مداخلتي حول كتابه الموسوم “الدخان” قبل عام تقريباً..

كان جيداً وأسلوبه مفعم بالثقة – موضع إشارتنا للتطور عند أبي ذر من ناحية التأليف الروائي – وشيق بالإثارة وسرد للزمكان لا يخلو من اتقان معاش وهنا – بالنسبة لي أقلَّاها – تكمن مسؤولية الكاتب  أي كاتب في الارتقاء والتعريف بالبيئة المكانية وإنسانها من كل ضروب الحياة، لواقع قروي بدوي موغل في البداوة موغل في البدائية في قالب روائي محكم بنسبة كبيرة للغاية، قال أبو تمام: نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى فما الحب إلَّا للحبيب الأول.

وكم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
وحنين أبا ذر للمكان عندي هو وفاءه لوطنه مسقط رأسه ومن باب الانتماء فحدِّث ولا حرج، فالمكان عند العرب قديماً كانت تحن إليه رواحلهم ودوابهم قبل أن تحن إليه شخوصهم، قال عنترة:

ولو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي
ولقد شفا نفسي وأبرأ جرحها قبل الفوارس

وقال البحتري يحن حنيناً إلى دياره ومن قبل راحلته:

حنَّت قلوصي بالعراق وشاقها من ناجر برد الشام وريفه
ومدافع الساجور حين تدافعت بين ضفتيه تلاعه وكهوفه

وقلت أنا في قصيدة لي في رثاء الشعر العربي:

ونيبي حلٌ تنوخ راغية فلا فوت إليها أو ألمح النظرا
وهذا باب كبير في الأدب العربي وبالتحديد عند الجاهليين ومن جاء بعدهم من بني أمية وبني العبَّاس وقليل من الأندلسيين والله أعلم ، ليس موضعه ههنا من التفصيل.

هذا ! من جانب أخر مما لفت نظري هو مقبولية الأسماء وحوشيتها ويقبلها من عاش في القرى والأرياف ويأباها من تبندر أو احتضر إلى العاصمة وإن كانت محشودة بعض الشيء بالأسماء لكنها واقعية جداً وهنا مهارة الكاتب أن يمزج بين الواقعية والخيال ثم يوغل فكرته مُنجَلَّةٌ في السرد ويضع النتيجة حيث أراد أو ما يعرف بالنهايات المغلقة راجع كتابي “العقل الروائي السوداني” إصدار دار البيدر للطباعة والنشر بالإمارات العربية المتحدة لسنة 2024.

ثم الصور المختزلة في ذهن الكاتب التي تتداعى مع الأشياء والأحياء من الطبيعة التي جاء منها بطل الرواية وفي تقديري الشخصي بيئة الكاتب نفسها في شخص بطل الرواية “الضوَّاها السروري” وإن كان قد عزف صاحبنا عن التشبه ببطل الرواية تجسيداً لكن أنا أفهم من النص ذلك وقديماً قيل: “المرء ابن بيئته” فلا يكاد أبا ذر يجد مخرجاً وإن أبى.

قلت: أثر المكان أو الطبيعة أو البيئة عند أبي ذر له دور كبير في السرد من ناحية الوفاء والانتماء والكتابة الطفرة الجيدة الجديدة على مستوى كُتَّاب الرواية السودانية المعاصرة اليوم، ولك أن تأخذ مثالاً على ذلك من داخل النص من باب فكرة موضوعها الخالص إلى هروب الضوَّاها السروري من القرية إلى المدينة أثر التدهور المريع في القيم والأخلاق والحياة والناس ليتخلص من رهق الفشل القروي، ومن ثم ينهض بها من جديد وقد كان بعد ضروب من الكدح والكبد والأرق والألم ويعود من جديد ظافراً مجدداً للحياة والناس.

أبرز القضايا السالبة عنده هو زواج القاصرات من الشيخ الضلول “أبجبة” مستغلاً وضعه الاجتماعي الديني وهو شيخ القرية لتحقيق أغراضه الشخصية وإن تعارضت مع القيم والدين والشرائع والأعراف المجتمعية ضارباً بها عرض الحائط المهم هو أن يصل لمبتغاه الذاتي مهما كان.

القضية الثانية التي تنبهت إليها سواء قصد الكاتب ذلك أم لم يقصده هو قضية استغلال الدين لتحقيق المآرب الشخصية على حساب الجميع، الدين أولهم والناس تبعاً ارتزاقاً من أجل الرفاهية والخداع واستغلال عقول البسطاء السُذَّج لصالحه وليس المشروع الحضاري السوداني عنه ببعيد إلَّا من رحم ربي، ومن ثَمَّ تطويع الظروف والعلاقات الاجتماعية الرفيعة في خدمة أبجبة وحده دون غيره فهو رمز التلاعب بالدين والناس وحيواتهم باسم الدين نفسه الرمز الروحي القهري لسوق الناس إلى الإذلال والاستكانة ومن ثم السيطرة عليهم وجدانياً وفكرياً.

الضوَّاها، عازم على محاربة الجهل والفقر والمرض من أبناء قرية – حِلَّة – السروري وأن يوقف “أبجبة” الشيخ الضلول أحد قيادات ورموز الفساد العريض في هذا البلد الرحيب وأمثاله كذلك، وقد فعل.

أنا سعيد للغاية إذ أقدم لقراء العربية الأستاذ أبا ذر آدم الطيب، الذي سبقت معرفته الناس قبلي لكن لعلهم ينتبهوا إلى التطور الملحوظ المحبب إلى النفس من باب التأليف حين يقرأون روايته الجديدة “سوق القش”.

في وقت عصي على الزمن نفسه ذي المعايش والسرعة حين يقارنوا بين ما كتبه قبل هذه الرواية وهذه التي بين أيديكم والتي تليها وهو في تطور مستمر حالما ساعد نفسه بكثرة القراءة والاطلاع على المنقول لمزيد من الإبداع والتميز، سر لا كبا بك الفرس.

https://anbaaexpress.ma/csg7x

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى