هذه الجملة التي نطق بها القائد السياسي لحركة حماس أبو العبد: إسماعيل هنية، و هو يحاور خامنئي، كانت بليغة لحد إستشعار مصيره المحتوم في تلك الليلة المشؤومة.
إنها البصيرة التي يتمتع بها كل مؤمن، خبر الحياة و علم أسرارها و تيقن بأن الآخرة خير من الأولى، و تجند لها بأن طلب أسمى الغايات و إحدى الحسنيين :النصر أو الشهادة.
كانت مسيرة أبو العبد حافلة بالمواقف المشرفة في طريق تحقيق تحرير فلسطين من المحتل الصهيوني، و عاش أطوار هذا الصراع المرير، صراع بين الحق والباطل، صراع عمر لأكثر من سبعة عقود، و كان له تأثير كبير على المنطقة العربية، من الناحية السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، فمن الناحية السياسية انقسمت المنطقة إلى دويلات بحدود جغرافية معلومة و ظهرت بذلك الدولة القطرية الحديثة و مما زاد الانقسام حدة، هو نشأة تيارات سياسية متناقضة المذاهب فكريا لدرجة التصادم.
و هذا كله أدى إلى صراعات سياسية داخلية، عصفت بتطلعات الشعب الواحد و الشعوب العربية، من كل المناحي، سواء من حيث ترسيخ دولة الحق و القانون و المساءلة و التداول على السلطة بشكل سلمي و تغليب ثقافة الحوار، أو من حيث الرقي الاجتماعي و الثقافي و الحقوقي و الازدهار الاقتصادي.
كل شيء تعطل في المنطقة العربية و تأجل، لا تنمية بشرية ولا نهضة ثقافية وفنية و حقوقية و إنسانية ولا نهضة اقتصادية و لا رفه اجتماعي.
لا شيء غير الصراع على السلطة و خلق التوترات السياسية والأمنية و خلق الفتن الداخلية و تأجيل و تسويف، بل و تم تعطيل كل لحظات التغيير التاريخية التي عرفتها المنطقة العربية، من ثورات تصحيحية سياسية و ثقافية، نحو وضع قطار الأمة العربية والإسلامية على مسار السكة الصحيح.
إذا غاب سيد قام سيد، لكن المؤسف هو أننا في المنطقة العربية نعاني من غياب دائم لذلك السيد و الذي لم يقم منذ زمان، سيد آخر لملئ الفراغ و توحيد نسيج أمة عانت من التمزيق و الفرقة، و عانت من التدخلات الخارجية، و كان آخرها و اخطرها الحملة الاستعمارية، التي مزقت أوصال وطن عربي إسلامي، ظل موحدا و عصيا بفضل العقيدة الراسخة و اللغة العربية القوية لقرون خلت، لكن التهجين و العمالة و ضيق الأفق الفكري الذي أصاب الأمة العربية والإسلامية و التخبط في إيجاد الحلول للخروج من المأزق الحضاري الذي وقعت فيه الأمة، من بين الأسباب التي أعاقت عودة الأمة العربية والإسلامية إلى لعب دورها الحضاري المشرق.
و يعد المشروع الصهيوني في المنطقة العربية بمثابة، حصان طروادة، الذي به استطاعت الإمبريالية العالمية احتلال المنطقة العربية من جديد و ترسيخ نفوذها في كل هذا المجال الواسع واستغلال ثرواته المادية و المعنوية و البشرية و تسخيرها في بناء المشروع الغربي، القائم على السيطرة و التفوق في كل المجالات العلمية و التقنية.
إحتلال بطعم مستساغ من قبل النخبة السياسية الهجينة، المدعومة أيديولوجيا من الغرب بكل الوسائل المادية و حتى العسكرية، عبر خلق جو من الفوضى الخلاقة في عموم بلاد الوطن العربي، حسب متطلبات الزمان والمكان، و ذلك لغرض إبعاد شباب الأمة العربية والإسلامية، عن القضية المحورية و الوجودية في فلسطين المحتلة.
و عن ذلك الصراع المعلن بشراسة ضد الاسلام والمسلمين و الذي بلغ مداه بعد أحداث 11 من شتنبر من سنة 2001، التي مهدت لاحتلال العراق و جعلت من المنطقة العربية لقمة سائغة و هدفا لزعزعة استقرار المنطقة و اخضاعها بالقوة و النار، لتمرير الأجندة الغربية و ذلك بإقفال ملف القضية الفلسطينية و الى الابد.
عاش أبو العبد، إسماعيل هنية، كل تفاصيل القضية الفلسطينية و كان في خدمة هذه القضية حتى نال وسام الشهادة من أجلها، و قد سلك درب الشهيد عز الدين القسام و الشيخ أحمد ياسين، الأب الروحي للحركة الإسلامية و كل المجاهدين من حركات التحرير :ك حركة فتح و الحركة الشعبية و حركة حماس والجهاد الإسلامي و غيرهم من الحركات التحررية الذين سلكوا طريق التحرير و المقاومة حتى النصر .
و قد جاءت أحداث السابع من أكتوبر، لبعث القضية الفلسطينية من جديد و ك نقطة مفصلية في تحول هذا الصراع نحو إيجاد حل سياسي لهذه القضية، و كمنطلق عن بداية انحسار المشروع الإمبريالي و الصهيوني في المنطقة العربية و إيذانا بتحقيق التحرير و التحرر القريب في كل المنطقة العربية.
العلو و الفساد في الأرض ايذان بالسقوط و الزوال. إن أحداث طوفان الأقصى عرت عن الوجه الحقيقي للغرب و الكيان الصهيوني على حد سواء، وحشية و سادية و تقتيل و نفاق سياسي لم تعرف مثله البشرية، حتى في أسوأ لحظاتها القاتمة. إجرام على المباشر و استفراد بشعب أعزل.
لكن المقاومة المسلحة إستطاعت أن تربك العدو الصهيوني في الميدان و سجلت بطولات و صمودا اسطوريا، بالرغم من ترسانة العدو الأمريكي الصهيوني و قلة موارد المقاومة المسلحة و المحاصرة من كل الجهات :برا و بحرا و جوا. لكن اللحظة ام الاختراع و المفاجآت.
إذا غاب سيد قام سيد، و هذه حكمة بليغة، و رسالة للعدو الصهيوني، بأن طريق المقاومة طويل و رجالاتها من ذلك المعدن النفيس الذي يزداد لمعانا و توهجا كلما اشتد الصقل، و قد نال ابو العبد ما تمنى، و صدق ربه في سبيل هذه الطريق.
و قد فاجأت حركة حماس العدو الصهيوني و الغرب، بعد إغتيال اسماعيل هنية باختيار رئيسها الجديد في شخص السيد يحي السنوار، كرمز على حيوية الحركة الإسلامية حماس و كشعار على استمرار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي و كتحد للغرب و الكيان الصهيوني، على طريق التحرير.
طوفان الأقصى، أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد، و أعطاها صدى عالميا و اكتسبت القضية تعاطف معظم شعوب العالم، بل نظرا للاجرام الممارس من الآلة العسكرية الصهيونية على المدنيين، من تقتيل و تجويع و تهجير و ضرب مقرات المؤسسات الدولية للاجئين و المؤسسات التعليمية و المستشفيات، فقد تمت إدانة ذلك من كل المنظمات الدولية و الحقوقية و من المحكمة العليا للعدل و من مجلس الأمن الدولي.
و إتضح بالملموس تورط الغرب و الولايات المتحدة الأمريكية في كل ذلك، عبر تزويد الكيان الصهيوني بأداة الجريمة، كل أنواع السلاح الفتاك و عبر المساندة سياسيا بتعطيل قرارات مجلس الأمن الدولي بالفيتو، دون ان ننسى الدعم المادي و الدعم الاستخباراتي و اللوجيستي و ما خفي أعظم.
الصمود الأسطوري للمقاومة، أذهل كل المتتبعين و أهل الاختصاص من عسكريين و سياسيين و مهتمين بشؤون الصراعات الطويلة الأمد، و إعتبروا هذا الصمود بمثابة نصر للمقاومة الفلسطينية، التي وقفت ندا لجيش الإحتلال و أربكت حساباته التكتيكية و العسكرية، بالرغم من ذلك التفوق العسكري المدعوم من الغرب.
طوفان الأقصى، أظهر هشاشة هذا الكيان الصهيوني، سياسيا و عسكريا و استخباراتيا و ضعف الجبهة الداخلية، عند الأزمات الكبرى و عرى المستور و أظهر كذلك عن عدم انسجام هذا المكون السرطاني مع الجسد العربي والإسلامي و أن الاستئصال هو الحل الوحيد، لبعث الحياة في جسد الأمة العربية والإسلامية من جديد.
أي هدنة إنسانية طويلة الأمد، ستعطي نفسا قويا للمقاومة في فلسطين و سيتمخض عنها طوفان التحرير و من هنا يتمسك الكيان الصهيوني بعدم الدخول في صفقة مع المقاومة الإسلامية بضمانات دولية ملزمة يتعهد فيها الكيان الصهيوني بإنهاء عدوانه على غزة و انسحابه منها، مع هدنة بين الطرفين طويلة الأمد، لإتمام صفقة تبادل الأسرى من الجانبين.
و قد تعصف هذه الصفقة بمستقبل رئيس وزراء هذا الكيان و تضعه في قفص الاتهام و المحاكمة السياسية، لكن الضغط الدولي و النفسي و الميداني على الصعيد العسكري، بدأ ينعكس على الجبهة الداخلية للكيان الصهيوني، لإتمام الصفقة بأي ثمن.
طوفان التحرير قادم لا محالة، لأن كل علو و فساد في الأرض عاقبته الزوال.
(يقولون متى هو، قل عسى ان يكون قريبا).