أدت سيطرة طالبان السريعة على السلطة في أفغانستان إلى بروز هامش واسع من النقاشات في أوساط الخبراء والمراقبين الروس حول مستقبل العلاقة مع الحركة، التي رغم زيارات وفودها المتكررة إلى موسكو (قبل استلام السلطة وبعدها)، فإنها ما زالت حتى اليوم ضمن القائمة الروسية للجماعات الإرهابية.
ويتمحور السؤال الأساسي لدى بعضهم حول الخطر الذي يمكن أن تشكّله طالبان على الأمن القومي والمصالح الروسية، وفي الوقت ذاته على حلفائها في آسيا الوسطى، التي تعد الفضاء الإستراتيجي للكرملين في القارة، في حين ينشغل البعض الآخر بالسؤال عن مستقبل العلاقة والشروط التي يمكن أن تؤدي إلى تطبيعها.
وحتى مساء يوم 15 أغسطس/آب 2021، كان رهان موسكو ما زال قائما على تمكّن ممثلي الحركة والحكومة -التي بدأت توشك على الانهيار حينذاك- من تأليف حكومة انتقالية؛ لكن هروب الرئيس الأفغاني أشرف غني من البلاد غيّر اتجاه المقاربة الدبلوماسية لروسيا إلى مستقبل العلاقة مع كابل، الذي تثبت مع إعلان طالبان من القصر الرئاسي إنشاء “إمارة أفغانستان الإسلامية”.
من خطف الطائرات إلى المفاوضات.. كيف تحولت العلاقة بينهما؟
من اختطاف الطائرات الروسية وإعلان الجهاد المقدس إلى الزيارات والمفاوضات، تطورت العلاقة المعقدة والشائكة بين الطرفين، ووقع أول حدث بارز بينهما قبل وصول طالبان إلى السلطة، عندما قام مقاتلوها في الثالث من أغسطس/آب 1995 بإرغام طائرة تابعة لشركة طيران “قازان” الروسية -كانت تقل 30 طنا من الذخيرة من ألبانيا لصالح حكومة برهان الدين رباني الأفغانية- على الهبوط قسرا في قندهار، وتم أسر الطاقم المكون من 7 روس واحتجازهم لأكثر من عام حتى تمكنوا من الفرار يوم 16 أغسطس/آب 1996.
ولم تعترف موسكو بطالبان حتى بعد أن سيطرت على العاصمة كابل وبقيت في السلطة حتى عام 2001.
وبعد إغلاق السفارة الروسية في العاصمة الأفغانية وإجلاء موظفيها، بقيت القنصلية العامة الروسية في مزار الشريف فقط، ومايو/أيار1997، أغلقت موسكو بعثتها الدبلوماسية الأخيرة في أفغانستان، بسبب اقتراب خطوط المواجهة.
يوليو/تموز 1998، اقتربت حركة طالبان من حدود رابطة الدول المستقلة وهددت “بعواقب وخيمة” على أوزبكستان وطاجيكستان إذا حاولتا مساعدة الجيش “المهزوم” للجنرال رشيد دوستم. حينها تدخل حرس الحدود الروسي على الحدود الجنوبية لرابطة الدول المستقلة وأقام نظاما متطورا لحمايتها.
أغسطس/آب 1999، دار القتال مع طالبان على بعد 5 كيلومترات من الحدود مع طاجيكستان. في الوقت نفسه، قام مقاتلو الحركة في أوزبكستان بغزو قرغيزستان، ومحاولة اقتحام الأراضي الأوزبكية.
في يناير/كانون الثاني 2000، اعترفت حركة طالبان باستقلال جمهورية إيشكيريا غير المعترف بها على أراضي الشيشان، وأعلنت إقامة علاقات
دبلوماسية مع حكومة أصلان مسخادوف، ووفقا للمخابرات الروسية، وافق المقاتلون الشيشان على إقامة معسكر في منطقة مزار الشريف الأفغانية على الحدود مع أوزبكستان، ومنح اللجوء للحكومة الشيشانية في المنفى.
في فبراير/شباط 2000، ناشدت حركة طالبان العالم الإسلامي لإعلان الحرب المقدسة على روسيا لإجبارها على وقف العملية العسكرية في الشيشان. ومارس/آذار من العام نفسه، بدأت إذاعة طالبان “صوت الشريعة” البث باللغة الروسية.
في 14 فبراير/شباط 2003، اعترفت المحكمة العليا الروسية بحركة طالبان كمنظمة إرهابية محظورة أنشطتها في روسيا. ومع ذلك، جاء ممثلو الجناح السياسي للحركة إلى موسكو عدة مرات لإجراء مفاوضات.
وعام 2018، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف “لم نخف أبدًا أننا نحافظ على اتصالات مع طالبان، فهم جزء من المجتمع الأفغاني”.
هل توقعت موسكو وصول طالبان إلى السلطة؟
على عكس بعض القراءات السياسية، يؤكد رئيس تحرير مجلة “أرسنال أوتشيستفا”، فيكتور موراكوفسكي، أنه كان واضحا بالنسبة لموسكو عدم قدرة الجيش وقوات الأمن في أفغانستان على السيطرة على هياكل ومؤسسات الدولة بدون نظام الإمداد من قبل الأميركيين.
وهو، حسب موراكوفسكي، ما بدا جليا في الانهيار السريع للمؤسسات الرسمية مع اللحظات الأولى لانسحاب القوات الأميركية، بالإضافة إلى أنه كان من الواضح أن الجيش الأفغاني ليست لديه دوافع معنوية للقتال، وأنه سيفسح المجال لسيطرة سهلة لطالبان على الحكم.
لماذا لم تعترف موسكو حتى اليوم بطالبان؟
بعد يومين فقط من استيلاء طالبان على السلطة، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن بلاده لا تتعجل الاعتراف بالحركة، موضحا أن هذا الموقف يتناسق كذلك مع حلفاء موسكو، وعلى رأسهم الصين.
لكن الخارجية الروسية أصدرت مارس/آذار الماضي، لأول مرة، اعتمادا لدبلوماسي أفغاني يمثل حكومة طالبان، وأعلن ذلك الوزير لافروف نفسه خلال مؤتمر دول الجوار لأفغانستان.
ويرجع رئيس مركز دراسات أفغانستان، أندري سيرينكو، ذلك إلى مجموعة من الأسباب، من بينها وجود دبلوماسيين من الحكومة الأفغانية السابقة تقريبا في جميع السفارات الأفغانية بالعالم وفي الأمم المتحدة، ولا يزالون موالين لواشنطن، وليسوا خاضعين لطالبان، إذ إنه من الناحية الرسمية لم يتم إلغاء جمهورية أفغانستان الإسلامية بعد.
في الوقت نفسه، لم يستبعد سيرينكو -في حديثه للجزيرة نت- احتمال ظهور مكتب تمثيلي للحركة في موسكو قبل الاعتراف الرسمي بحركة طالبان بوصفها حكومة أفغانية شرعية.
ما الشروط التي تضعها موسكو للاعتراف بطالبان؟
في وقت سابق، قال الممثل الخاص للرئيس الروسي لأفغانستان، زامير كابولوف، إن روسيا ستعترف بحكومة طالبان بعد تشكيل حكومة ائتلافية، ومراعاة حقوق الإنسان في البلاد، ومن ضمنها أوضاع المرأة وحقوقها في كافة نواحي الحياة.
وبالمناسبة، فإن كابولوف، الذي يشغل كذلك منصب مدير الدائرة الثانية لآسيا في الخارجية الروسية، كان أكثر المسؤولين الروس صراحة في التعبير عن الموقف تجاه الحركة، عندما صرح في وقت سابق بأن قيادييها يظهرون استعدادًا أكبر للتفاوض من الحكومة في كابُل، مضيفا أنه “إذا قارنا قابلية التفاوض بين الزملاء والشركاء، فقد بدت لي طالبان منذ فترة طويلة أكثر قابلية للتفاوض من حكومة كابل العميلة”.
ما قنوات الاتصال بين طالبان وموسكو؟
حتى اليوم، تجري الاتصالات بين طالبان وموسكو عبر قناتين: من خلال السفارة الروسية في كابل، والممثل الخاص للرئيس، زامير كابولوف، وهو مسؤول بوزارة الخارجية الروسية أيضا.
ويشير سيرينكو إلى أن الاتصالات ستبقى محكومة بهاجس “أدوات الضغوط” التي تملكها واشنطن ضد طالبان، وعلى رأسها الأموال الأفغانية في الخارج، وموضوع المساعدات الإنسانية، وهي مسائل ربما تدفع الحركة إلى اتخاذ مواقف سياسية في المستقبل قد تتعارض مع السياسة والمصالح الروسية.
ما مصلحة روسيا في تطبيع العلاقات مع طالبان؟
حسب الخبير في شؤون بلدان آسيا الوسطى، سيرغي كورتوف، فإن روسيا تأمل في علاقات متزنة وبراغماتية مع طالبان، تمكّنها من قطع ممرات تهريب المخدرات من أفغانستان عبر بلدان آسيا الوسطى، ومنها إلى أوروبا عبر روسيا. وكذلك التعاون في مجال مكافحة خطر التنظيمات المتطرفة في آسيا الوسطى، وبالحد الأدنى تحييد أفغانستان بعيدا عن مسلسل التجاذب الروسي الأميركي في المنطقة.
في المقابل، لطالبان مصلحة في التقارب مع روسيا، حسب رأي كورتوف، فبالنسبة لجناح مؤثر داخل الحركة، يتشارك الجانبان في وجود عدو مشترك يتمثل في الإدارة الأميركية. علاوة على ذلك، تهدف طالبان إلى الحصول على مساعدة روسيا في إعادة إعمار البلاد، وكذلك مساعدة الحركة في الخروج من العزلة الدولية.