قضية درايفوس فضيحة سياسية، حيث تم إدانة ألفرد درايفوس، وهو ضابط مدفعية فرنسي، من أصل يهودي بتهمة الخيانة، حُكم عليه بالسجن المؤبد عام 1894م نتيجة تبليغه أسرارًا عسكريةً فرنسيةً للسفارة الألمانية في باريس، نُفي إلى جزيرة الشيطان في غينيا الفرنسية، حيث قضى فيها خمس سنوات تقريبًا، إلا أن رئيس مخابرات الجيش الفرنسي جورج بيكار، اكتشف أدلة تثبت براءة درايفوس من التهمة المنسوبة إليه، وتشير أصابع الاتهام إلى شخص آخر هو الميجور استرهازي.
فطالب المسؤولين بإعادة المحاكمة، إلا أن جورج بيكار أُمر بالصمت، ونقل إلى تونس، فشُنَّت حملة إعلامية مكثفة قادها المفكر الفرنسي اليهودي لازار، للمطالبة بإعادة النظر في القضية، وتحت إلحاح الموقف المتفجر تم القبض على الميجور استرهازي، وحوكم ذرًا للرماد في العيون، ثم بُرِّئ بسرعة؛ لعدم كفاية الأدلة.
فكتب إميل زولا سلسلة من المقالات تحت عنوان (إني أتهم)، هاجم فيها المحاكمتين، وكانت النتيجة اتهام زولا بالقذف العلني، وصُدور أمر بسجنه، فهرب إلى إنجلترا، وانتحر الشاهد الأول في القضية؛ بعد أن اعترف بتزويره للوثائق التي أدت إلى إدانة درايفوس، واعتراف الميجور استرهازي بجريمته، وفرَّ إلى إنجلترا، فأُعيدت محاكمة درايفوس، وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات، قضى منها خمسًا، لكن الرئيس الفرنسي أميل لوبيه أصدر أمرًا بالعفو عنه، بعد أن قامت القوى الثورية واليهودية بالضغط لإعادة محاكمته، فتمت براءته، وأُعيدت له حقوقه، وعُين في هيئة الأركان، ومُنح وسام شرف، وفي الحرب العالمية الأولى عُين كولونيل قائدًا لأحد قطاعات باريس.
هذه القضية عمَّقت الخلاف بين المؤيدين والمعارضين، وأدَّت إلى تقوية الأحزاب الاشتراكية، وكانت وراء القانون الذي صدر في عام 1905م، بفصل الدين عن الدولة.
هرتزل الذي شاهد محاكمة درايفوس، وشاهد الجماهير الفرنسية التي كانت تهتف “الموت لليهود” على خلفية أجواء اللاسامية التي كانت سائدة في تلك الفترة، استنتج أن الحل الوحيد لمواجهة الحملة اللاسامية تتمثل بهجرة ضخمة لليهود إلى أرض يمكن أن يعتبروها ملكًا لهم، وهكذا كانت قضية درايفوس أحد العوامل الحاسمة في نشوء الصهيونية السياسية.
لقد استغل اليهود قضية درايفوس، واستطاعوا من خلال صحفهم، ومثقفيهم، وكُتَّابهم أن يقسموا المجتمع الفرنسي إلى قسمين، فأحدثوا فيه شرخًا عظيمًا، واستغلوا الشعارات التي تُهتف ضد فسادهم وخيانتهم، وحوَّلوها إلى معاداة للسامية بأقلامهم ومحابرهم الخبيثة، فاستصدروا أحكامًا وقوانين وقرارات لصالحهم، وهذا الأمر لم يحدث في الماضي فقط، فهذا ديدنهم في كل زمان ومكان، وها نحن نرى اليوم بأمِّ أعيُننا كيف يزيفون الحقائق، ويقلبون الصور، فيُظهرون أنفسهم ضحايا إرهاب الفلسطينيين، وما حروبهم على فلسطين واقتلاع الحجر والشجر والبشر إلا دليل على جرائمهم البشعة، ومهما حاولوا طمس الحقيقة إلا أنهم مكشوفون عاجلًا أم آجلًا.