آراءثقافة

وفي الكتابة حياة.. قراءة في رواية “ثمة خلل ما” للكاتبة آمنة برواضي

بوسلهام عميمر

الكاتبة آمنة برواضي المتعدد في واحد. تكتب الرواية، وتكتب الشعر، وتكتب القصة القصيرة جدا، وتكتب المسرحيات، ولها العديد من المشاركات في مهرجانات القصة القصيرة و في عدد من الملتقيات الإبداعية تسييرا وإشرافا على أيامها الدراسية وتكتب في النقد لها مجموعة من الدراسات والقراءات.

وتجري حوارات مع ثلة من النقاد والناقدات. إصداراتها الأدبية أكثر من أن تحصى، منها هذه الرواية”ثمة خلل ما” عتبة معبرة موحية مدعاة لأكثر من سؤال، تتوفر فيه كل عناصر الدهشة.

إنها تشكل مع لوحة الغلاف عبارة عن اضطراب بحري، تختلط فيه الألوان، مع خلفية الرواية عبارة عن مقتطف من مقدمة للأستاذ محمد دخيسي، يركز فيها على جزء من معاناة بطلة الرواية سعيدة ودور الكتابة في التخفيف من وطأتها عليها.

عتبات تتشابك خيوطها، لتبعث في نفس القارئ أكثر من سؤال، تدعوه لمتابعة مسارات بناء الرواية الدرامي.

فالعنوان من ثلاث كلمات، إشكالي في حد ذاته. ف”ثمة” اسم إشارة للبعيد بمعنى هناك، “خلل” مقترن بالفساد والضعف، و”ما” جعلت العنوان مفتوحا على كل الاحتمالات.

في انسجام تام مع أجواء البعاد في الرواية وما يرتبط به من معاناة ومقاساة ومكابدة آلام الفراق وانتظار الذي يأتي أو لا يأتي، ابتداء من بعد والِديْ بطلتها سعيدة وتخليهما عنها مذ كانت صغيرة، وهل هناك أصعب على النفس أن يبعد المرء عن البيت الذي شهد أول صرخة ميلاده؟ تقول في ص137 “كنت ألوم حظي الذي رماني في بيت أقرباء لجدتي لتربيتي، لأن الله لم يرزقهم بأبناء، لكنني عندما كبرت أدركت حكمة الله في ذلك، كنت الوحيدة من بين كل أخواتي التي قدر لها أن تنهي تعليمها وتحصل على وظيفة”، “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم”.

وبُعد زوجها عنها بعد ضبط خياناته المتكررة لها واستهتاره بمسؤولياته الأبوية، و بُعد ابنها سراج عنها إذ ترعرع في كنف أبيه، وحتى لما شبّ و تزوج كان في حكم البعيد، إذ كان كل اهتمامه يصرفه على أسرته. وللبعاد وجه آخر عاشته سعيدة بطلة الرواية، بعادها عن الناس، بحكم إصابتها بمرض ألزمها كرسيا متحركا، كانت الشرفة ملاذها وصلة وصلها بالعالم الخارجي، لم تظهر بعض علامات انفراج أزمتها سوى في الصفحات الأخيرة، والرواية على مشارف نهايتها، لما بشرها الطبيب بإمكانية إجراء عملية واستعادة قدرتها على الوقوف والمشي.

والأنكى من كل ما سبق والأقسى على نفسها، كان بُعد ابنتها سارة، إذ كانت تعقد عليها آمالا كبيرة لتجدها بجانبها، تكون سندا لها. “كنت أحسبها وطني الذي آوي إليه في شيخوختي، مأواي الذي أحتمي به، ولمسة حنان من دهر قاس أذاقني الكثير من الوجع. لكنها كانت يدا قاسية آلمني وجع بعادها” 95.

لكن، فبدل أن تكون إعلامية وفق رغبة أمها تشتغل بالقرب منها، لم يحالفها الحظ، دون أن تدرك سر ذلك كما تقول أمها بمرارة أم مكلومة “وشاء القدر أن تنجح في مباراة البحرية، ليفصلها عني ذلك البحر الشاسع” 138.

“ثمة خلل ما” العبرة بعموم المعنى لا بخصوصية اللفظ، فما تتحدث عنه الرواية قد نجد له نماذج كثيرة في الواقع المعيش. فما يؤرق السيدة سعيدة، ويشقيها أضعافا مضاعفة، وهي تقلب صفحات دفتر تربيتها لابنتها، أنها لم تذخر وسعا لتوفير كل ما يلزمها لتنشأ نشأة سليمة، تقول في ص23 “كنت أريدها سعيدة وأكتفي وحدي بالحزن أغرف منه القدر الكافي ليومي”.

أكثر من ذلك تقول أنها “حتى القوة تظاهرت بها في مواقف كثيرة، وإن كان الخوف يسكن أعماقي، لم أكن أريد أن أرى الخوف يسكن عيونها الصغيرة”. ولفرط حبها لها تقول لها، لما يشتد حنينها إليها يؤز أضلعها أزا مبرحا “ابنتي، أحببتك وأنت مضغة في أحشائي، ورعيتك وخفت عليك من نسمة الهواء، وتمنيت لو بإمكاني أن أعيدك متى شئت إلى بطني لأطمئن عليك أكثر” 82. فهل إفراط سعيدة في حب ابنتها سارة بهذا الهوس، يدخل ضمن ما تعنيه الكاتبة بالخلل في عنوان روايتها، بخصوص طريقة تربيتها لها؟.

وبقدر حبها الذي تجاوز كل المقاييس، كان مقدار ألمها وعمق وجعها لما انقطعت أخبارها عنها. فهل هناك أفظع من مقابلة الإقدام بالإحجام والقرب بالصدود؟ ومع ذلك ظلت تعيش على الأمل، أمل فقط أن تتلقى رسالة منها، أو فقط إشارة تنعم بها. تقول “وهل باستطاعتي أن أنسى وجودي وكياني؟.. لو كانت طرفا آخر لاستأصلته كجزء مريض، وتخلصت منه لكنها فلذة كبدي ورئتي التي أتنفس منها مهما فعلت ومهما قست” 107.

ومع غيظها الذي ملك عليها كل جوانحها، وغضبها الشديد على عدم تلقي ولو إشارة عابرة ردا على رسائلها اليومية تمطرها بها صباح مساء، كانت تتساءل أحيانا مع نفسها بحنان، ملتمسة لها بعض الأعذار، تستحضر هذا الجفاء غير مصدقة.

إذ كيف حدث هذا التغيير من النقيض إلى النقيض وهي تذكر جيدا، لما كانت تخرج معها للتسوق تقول لي “ماما لقد حرمت نفسك من كل شيء من أجلنا فتمتعي قليلا، الله جميل ويحب الجمال” 77.

وبقلب كسير تخاطبها بلغة حانية متوددة إليها حتى وهي لا تعرف عنها شيئا، “في كل ليلة يا ابنتي أبحر على قاربي المهترئ، وحيدة في بحر همومي تتقاذفني الأفكار وتلقي بي أحيانا كثيرة على صخوره التي لا ترحم ضعفي، وعندما أحس بالجرح ينزف من إحدى جروحي تستجيب دموعي بسخاء أتقلب لفترة طويلة في مكاني وأنا لا زلت أتخبط في بحر أمواجه العاتية، إلى أن يغلبني النوم فأستسلم لغفوته” 80.

الكتابة الروائية فن من فنون التعبير الراقية. صحيح إنها تتيح للكاتب(ة) مساحة واسعة للحركة في الأمكنة وفي الأزمنة بالنقد السياسي والاجتماعي، قد تتسم أحيانا بالحدة على لسان شخوصها، لكن روائيتها، تبقى معلقة بمدى توفر مقوماته ومستلزماته الأساسية.

إنه مهما بلغت فرادة تيماتها، و شهامة شخوصها و صلابة مواقفهم، وقوة رسائلها لمن يهمهم الأمر، لن تنال شرف هذا الانتماء له ما لم تلتزم كتابتها، باللغة الانزياحية، والبناء الروائي الدرامي أو الكوميدي المحكم، وتناصاتها، وبيانها وبديعها وكناياتها واستعاراتها وغيرها من أسس هذا الجنس الإبداعي، كالحوار بما يوافق مستوى شخوصها الاجتماعي والعلمي. فأمينة برواضي، بحكم علو كعبها روائيا، جاءت “ثمة خلل ما” حافلة بالصور الفنية البديعة.

لنتابع بعضها على سبيل التمثيل، وإلا فهي أكثر من إيرادها مجتمعة. تقول في سياق التماس العذر لمقابلة إحسانها وحبها بالجحود والصدود “أنا أسامحها باستمرار لأني لا أعلم ظروفها، وهذا ما يجعلني أموت ألف مرة في اليوم” 85، وتقول في سياق وصف حالها وهي تعاني لوعة غياب ابنتها وانقطاعها الكلي عن التواصل معها “أنا اليوم منهارة، كل البنايات في الداخل قد أصابها الشرخ من أول ما عرفت الأشياء لكني قضيت العمر أرممها، والآن ها هي تتساقط في أعماقي، وتتركه عبارة عن ركام من الأحزان والأوجاع”91. لنتصور الأحزان والآلام في أعماق دواخلها كأي بناء من لبنات يصاب بالدمار فينهد فيتراكم بعضه فوق بعض.

وفي وصفها لحال بطلة روايتها وهي في شرفتها منفذ تواصلها مع العالم الخارجي، تقول في ص95 ببلاغة متناهية “كانت تأبى أن تغادر الشرفة، قبل أن تودع آخر خيط تجره الشمس وراءها أثناء رحيلها عن السماء”.

تعبيرات قمة في الجمالية. تقول في سياق آخر عن صديقتها الحميمة حورية وهي تطلب من خادمتها لطيفة إعداد الشاي “خالتك حورية تعبت من سماع كلامي، لا بد من شيء يساعد على هضم هذه الأحزان” 17.

حورية هاته إليها يرجع الفضل في توجيهها إلى فعل الكتابة، بقولها في إحدى زياراتها إليها “لماذا لا تفرغين كل الكلام على الورق” 18، إدراكا منها لأهمية الكتابة، وتزيد قائلة بنفس الصفحة “اكتبي كل ما تفكرين به، الكتابة تفريغ لكل الآلام، ولكل الأشياء التي تثقل علينا، وكثيرا ما قرأت إنها علاج نفسي” ففضلا عن التوثيق، فهي اليوم إحدى أهم وسائل العلاج لأكثر الأمراض النفسية تعقيدا.

الصور البديعة أكثر من أن تحصر، لنستمتع معها بجمال التصوير هذا “ها هي الشمس تجمع خيوطها من جديد تستعد للرحيل، وتودع السماء بعدما أدفأت الكون طوال اليوم” 115، وبنفس الصفحة نجدها تقول ببيان مدهش “وأيضا مع الليل تضرب الأحزان موعدها معي”.

علاوة على ما سبق، فقد اعتمدت الكاتبة في تدبيج بناء روايتها بتشبيهات زادت الحبكة جمالا، نقتبس بعضها.

لنتابع معها وهي تقرب إلينا مرور العمر وهو مثقل بالانكسارات والخيبات “قضينا العمر ندور في مكاننا كما تدور عقارب الساعة لتعيد الدورة نفسها، وتجددها على امتداد الزمن، وكما تخرج الشمس من مخبئها كل صباح وتغادره لتعود إليه في آخر اليوم، بعدما تعبت من نشر الضياء بسخاء على الكون، هكذا قضينا أيامنا الماضية” 14.

وفي سياق وصفها لحالها وقد انقطعت عنها أخبار ابنتها سارة، بكل مرارة لم تجد ما تقرب به ما يعتمل في نفسها من لواعج الألم والحسرة غير قولها في ص65 “بعدما سافرت.. أحسست بها انفصلت عني تماما، كأني انتزعت قطعة من صدري، أو صدري الذي انفصل عني بما يجمعه من قلب وشرايين..”.

وباقتدار الكبار توظف في إطار التناص حكاية شهرزاد، توظيفا غير تقليدي، رابطة بين ماضي شهرزاد أيامها، وما تعيشه سعيدة بطلة الرواية وما تعانيه من آلام وأحزان جراء ابنتها التي قابلت بجحود وصدود تضحياتها الجسام، كان له أبلغ الأثر على صحتها تقول، “توقفت عن الكلام كأنها شهرزاد زمانها تحكي أسطورة وجعها” 78.

كما لم يفتها أن توظف الأمثال بنوعيها الفصيح والشعبي الدارج في روايتها أجمل توظيف، من قبيل “معذرة يا سيدتي، العين لا تعلو على الحاجب”، وقولها “سرك في بير”، وقولها “كما تدين تدان” 84. وكان أيضا للحكمة نصيب في الرواية على لسان شخوصها من مثل قولها “لكن يقينا أن طريق النجاح صعب ومملوء بالأشواك والمنزلقات والمخاطر” 30، وقولها “الحياة لا تقدم لنا أية خدمة مجانا، لا بد أن نشقى كثيرا لتجود علينا بالقليل” 45.

قبل الختم لا بد من الوقوف على مجموعة قضايا تؤكد عليها الكاتبة وتتميز بها روايتها:

أولاها، تمهيدها لكل فصل بعتبة عبارة عن جدارية مثقلة بالمعاني والدلالات، تؤشر على مضمونه ومسار حبكته، كان لها وللراحل محمود درويش النصيب الأوفى. نورد بعضا منها على سبيل التمثيل. ففي سياق تعبيرها عما خلفه غياب ابنتها من أوجاع عميقة تستحضر قول درويش في ص20 “كل عيب أحبه فيك، إلا غيابك”، وفي سياق وصفها لحالها وقد طال انتظارها وتعمق حزنها تورد في ص56، “لقد استنزف الطريق الطويل مشاعري وتوقعاتي ،، لا أشعر الآن بشيء ولا أتوقع شيئا”.

يبلغ الحزن والأسى مداه، لتورد قوله أيضا، وقد استبد به الألم وتمكن من نفسه “لم يعد هناك وقت لننسى الألم ،، كبرنا فجأة والعمر مر سريعا”99، وهو ما ينطبق بشكل رئيس على بطلة الرواية السيدة سعيدة، وسمتها الكاتبة بهذا الاسم من باب ما يعرف عن الأعمى لما ننعته بالبصير. من جهتها الكاتبة نفسها تستدعي بعض شذراتها، بما يخدم تيمتها الأساسية، فتورد قولها في ص62، “على مقعد الانتظار، أقلب الصفحات، أمر بكل الذكريات”.

ونختم بما يتماهى مباشرة مع التيمة الرئيسية المتعلقة بجحود سارة. فهل يمكن إدراج قول الكاتبة “الآخر قد لا يفهم معنى العطاء، خاصة إذا كانت الانانية طبعه. احذر أن تعطيه أكثر من حجمه، حتى لا يتقلص حجمك” 27 ضمن ما عبرت عنه في العنوان “ثمة خلل ما” لما لا نقدر العطاء جيدا فينقلب رأس مجنه ضدنا؟

ثانيها، الرواية بحكم علو كعب كاتبتها في الكتابة عموما والرواية خصوصا، وبحكم موسوعية ثقافتها، وبحكم تجاربها الحياتية، جاءت حافلة بالتأملات والحكم، نورد نماذج منها. لنتأمل معها قولها في ص123، تزرع الأمل في نفس بطلتها وقد بلغ منها اليأس من موقف ابنتها الجاحد مبلغه، “كلما هزمتك الحياة، خذ جرعة أكبر من الأمل ولا تستسلم، لأننا أحيانا قد نستسلم ونحن على قيد خطوة من النجاح”.

ولطالما ننشغل بمنعرجات سوداء في حياتنا فتشغلنا عن نقاط ضوء كثيرة في أيدينا ومتاحة لنا، فنضيع على أنفسنا الاستمتاع بها، و تظل أدهاننا متعلقة بالقليل فنفوت علينا الكثير. تقول بشاعرية جميلة “تطرد كل الوساوس دفعة واحدة، وتنشغل ببقعة الضوء المنيرة في سماء حياتها..

لأننا لو انشغلنا بالسواد لأهملنا تلك النقطة وضاعت بدورها ولم نتمتع بما يمكن أن تقدمه لنا من أمل وبسمة في حياتنا” 30 وفي سياق تأملاتها، تقول بنوع من التعجب والاستغراب من مكر الدنيا ص 105 “يا للتعاسة ما بال هذه الدنيا لا تعطينا كل ما نحب دفعة واحدة، إنها شحيحة باستمرار، إذا وهبتنا المال بخلت علينا بالصحة، وإذا توفرا معا نجد أشياء أخرى تنقصنا”.

ثالثها، ولأن المعرفة سؤال قبل أن تكون جوابا، فالرواية حافلة بالأسئلة بأنواعها وخاصة الاستنكارية منها. تقول في حوار لها مع صديقتها حورية “وهل الأحاسيس تكتب ياكبدي؟ وهل للمعاناة حروف؟ وهل ما بالقلب من جروح تضمده كلمات من حبر على ورق؟” وفي سياق استنكارها لحرب بعض النساء على الشيب تقول، في ص63 “ألهذه الدرجة تحافظ بعض النساء على شبابهن؟ وماذا لو تركت مجالا للشيب يعبر عن وجوده، ولا تخنقه بتلك الألوان؟”

وعلى لسان لطيفة خادمة السيدة سعيدة تتساءل في نفسها وقد سرحت في الزمن المستقبل، “ترى حين يكبرون، هل سوف يعلمون التعب الذي عانته من أجلهم، أم سوف يتركونها كما تركت سارة والدتها؟” 82. وإنها لا تفتأ تذكر ابنتها سارة لتتساءل مستنكرة، “أية ظروف تمنع البنت من الاتصال بوالدتها؟ أية ظروف تجعلها تنساها جملة وتنسى كل أهلها؟” 84.

رابعها، ما أكثر النساء ممن يعشن نفس ما عاشته السيدة سعيدة، من خيانة أزواجهن، وتخليهم عن أبنائهم، فيقضين العمر يندبن حالهن. هي رسائل إلى كل امرأة لاقت نفس ما لاقته سعيدة من زوجها تقول في ص122 “بعد أن تخلى عني زوجي عرفت كيف أتغلب على خوفي رغم كوني أنثى مكسورة الجناح، عرفت العلاج كي أشفى من كل جروحي بدءا من تعلقي به، كان يكفيني أن أتذكر طعم الخيانة الذي تجرعته كؤوسا منه على مدى سنوات”.

هل هي الشجاعة المكتسبة مما عاشته في صغرها بعد أن تخلى عنها أبواها. فمن يولد في العواصف لا يخشى الرياح. إنها تعتز بنفسها وتفخر بانتصارها، إذ استطاعت أن تحول ألمها إلى أمل بالانفصال عنه، بما أن ليس له من الرجولة إلا الاسم. تقول باعتزاز، “لم أشعر يوما بهزيمتي، بالعكس كنت أرى في انفصالي عنه انتصارا حققته أنثى بعيدا عن رجولة مزيفة، لا تعرف سوى إصدار الأوامر.

كل همها هو التحكم في كل صغيرة وكبيرة، وليس باستطاعة أحد أن يحاسبه عن زلاته وإهماله لأسرته وخياناته المتكررة” 123 شجاعة تعزيها في جزء منها إلى تربيتها تقول، “طوال سنوات حياتي أكره الظلم وأدافع عن المظلومين، ولو بأضعف الإيمان، قد يكون السبب مرده إلى ما شربت من ظلم منذ ولادتي، لم تقدم لي الحياة تلك الملعقة الذهبية” 94، وإن كانت كأي بشر، لا بد أن يعتريه الضعف بين الفينة والأخرى مهما بلغت قوته. تقول في ص83 “الكثير ممن عرفني يعتبرني امرأة قوية … لكنني في الحقيقة كنت أستسلم مثل ريشة في مهب الريح، وماذا بإمكاني فعله وأنا امرأة في زمن يحكمه الرجل أينما وليت وجهي، ويتحكم في مصيري، وها هو اليوم يتحكم في مصير سارة كما فعل بي من قبل”.

كثيرة هي الإشارات التي أوردتها الكاتبة في روايتها بفنية عالية، مسجلة مواقفها من قضايا مجتمعية مختلفة وردت في درج تفاعل أحداثها وتشابكها، تهم الزواج مثلا، ربما توجيها منها للشباب عامة وللفتيات خاصة المقبلين عليه “كان همي أن ترتبط بإنسان يحترمها ويقدرها، ويعرف أصلها وفصلها ويعرف تقاليدنا وعاداتنا، رجلا تحقق معه أحلامها، وليس رجلا كل همه الثروة التي يحتكم عليها، وزوجة تلد له أبناء يرثون بعده هذه الثروة، ويحطمها في نهاية الأمر ليرضي غروره كرجل” 116، وموقفها من التدين منتقدة من لا يتجاوز تدينه شكله وصورته، و من يسوف التوبة ويؤجلها حتى يتقدم في العمر قائلة وهي تنصح لطيفة “وكأن الايمان عندهم مرتبط بالسن وبالشكل. وكان منهم من قضى قبل أن يتوب إلى الله، ومنهم من عاد إلى الله بعدما شاخ به العمر وأصبح بدنه لا يساعده على ذلك”111.

وموقفها مما عاشه جيلها من حجر وتكبيل مقارنة بجيل ابنتها قائلة “ابنتي تختلف عني تماما، ربما القيود التي قيدني بها عصري، وجدتها حين جاءت إلى الدنيا قد كسرت أو احتجزت في ذاكرة أناس لم يشاركوني في تربيتها.” 134، وتحدثت برقي عن فعل التغيير المجتمعي، قائلة “يا ليتنا اخترنا في الحياة لعبة الجري بطريقة إكمال السباق، نتسلم منهم الحياة ونبدأ من النقطة التي تسلمناها” 15 وبحسرة تحدثت عن الصداقة قائلة في ص16 “يصعب أن تجدها في وقتنا هذا” وموقفها من الحب على لسان يوهانس كيبلر ص32 “الحب الحقيقي لا يتأثر بسوء المزاج. فمن يحبك، يحبك في كل حالاته”، وتحدثت عن الزمن قائلة “الزمن يا ابنتي لا يتوقف، ولا يعود إلى الوراء مهما حاولنا، كما أنه لن يسرع في العبور وإن تصور لنا ذلك” 137.

وتبقى الرواية مفتوحة على كل الاحتمالات، بفنية عالية تركت أمام القارئ الأبواب مواربة على أكثر من نهاية. ترى هل فعلا ابنتها سارة، تنكرت لها و جحدت كل معروف أمها وهي التي كانت “كل شيء في حياتها، ماضيها حاضرها ومستقبلها، هي ابنتها التي كانت تنتظر أن تلجأ إليها عندما يشيخ بها العمر” 92، أم هل يمنعها مانع قاهر من الرد على رسائلها؟ أم هي ترسبات التربية الأحادية في ظل الطلاق، مهما كانت التضحيات؟ ف”ثمة خلل ما.

 * كاتب وناقد من المغرب

https://anbaaexpress.ma/bqqud

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى