“في الحب ليس كل ما كان ظاهرا هو الحقيقي، الشيء الوحيد الذي يعتبر حقيقيا هو الشعور المستقر في أعماق النفس” عن مسرحية “سَمك عَسير الهضم” للغواتيمالي مانويل جاليش
قد يكون الموت أحد أوجه الغروب فقط، باب ضروري للغياب يسمح للذاكرة بأن تستعيد عافيتها ووهجها، وللحياة أن تزخر بدماء جديدة، إذ أن المبدعين العميقين لا يموتون خبط عشواء، أو كما قال جورج بطل مسرحية “نيكراسوف”: “الحياة ما هي إلا حالة فزع في مسرح يشتعل نارا، كل امرئ يبحث عن باب الخروج ولا أحد يجده، وكل الناس تتخبط في كل الناس… أنا صاحب الأمر في مولدي وموتي، وكما أني كنت صنيع أعمالي فأنا أيضا قاتل نفسي، لنقفز أيها الرفاق، إن الفارق الوحيد بين الرجل والحيوان هو أن الرجل يستطيع اقتراف قتل نفسه، أما الحيوان فلا”.. هل رحل محمد سبيلا عنا عنوة؟ هل اقترف “قتل نفسه” بالمعنى السارتري، ليكتشف أثره، ووشمه فينا نحن الذين صادقناه وأحبابنا؟ لعبة أخرى ربما للبقاء حيا وإن كان لا يرزق سوى فكره وحبه وشغبه الدؤوب على قضايا أرّقت ولا زالت الفكر المغربي والعربي؟
بين الحضور والغياب
ظل محمد سبيلا دائب الحضور، حتى في غيابه الفيزيقي لعلّة أو أخرى، يحرس على أن يترك دليلا يقودنا إليه: فكرة، نكتة، بسمة ساخرة، تعليق عابر يعمق وشمه كالجمر في الكلمات والأشياء.. إلا الآن، فقد حزم حقائبه ولم يشر إلينا بمنديل الوداع الأخير.. أتذكر يوما كنا في ندوة حول “المغرب إلى أين؟”، نظمت من طرف منتدى الفكر الذي كان يرأسه سبيلا وكنت عضوا في مكتبه النفيذي، أشرفت على تسييرها الراحلة نجية ملاك، أن متدخلا متحمسا أخذ الكلمة، ومما جاء في كلامه استشهاده بقولة لسبيلا، أردفها المتدخل ب”قولة للمرحوم سبيلا”، الذي كان مشاركا في الندوة.. انفجرت القاعة بالضحك، فعلقت لزميلي الذي كان يجاورني، وأعتقد أنه كان الصديق عمر أوشن: “الأخ لم يرتكب أي خطأ، فالكتابة صنو الموت، وكل كتابة هي قتل متعمد للذات أو لشخوص عبروا حياتنا”، وعلي اليوم أن أقنع ابنته إيناس أن محمد سبيلا لم يمت، وأنه حي بيننا، فالمبدعون كما قال جان كوكتو لا يمكن أن نصدق أنهم يموتون، إذ كما قال شيلر: “المنذور لأن يحيى أبدا في القصائد لا بد له في الوجود أن يبيد”.
وجع الرحيل..
ها قد رحل عنا سبيلا إلى حيث لم يعد من هناك أحد ليحدثنا عن الطقس وألفة المكان وأهله، اختار توقيت غيابه في غفلة عمن أحبوه، رحل فيما يشبه الومض ونحن الذين كنا نسهر على تنظيم احتفاء بهيج يليق بمقام تكريمه، وبعد موافقته على سلسلة من اللقاءات عبر الأثير في برنامج “مدارات” كان اقترحها الزميل المبدع عبد الإلاه التهاني قبل نصف عام، كأنه ملك حاسة استباقية.. قبل أسبوع من رحيله، كنت في عطلة بالشمال، كان ذلك يوم سبت حين هاتفني ولم أجب، ولما طلبت سبيلا مساء الأحد الموالي حين شغّلت هاتفي.. لم يرد، لم أقلق فقد كانت تلك عاداتنا في التواري.. سألني صديقي من النمسا الكاتب حميد لشهب عن هاتف العزيز إلى قلب المرحوم سبيلا، المفكر عبد الإلاه بلقزيز، بطلب من ابنته إيناس على وجه الاستعجال، راودتني بعض الشكوك، وبعدها أتاني الخبر اليقين بأن الإمبراطور المعظم كوفيد 19، الذي سخرنا منه معا بسحر لا يضاهى.. قد أنهى شغبه.
تيقنت الآن أنه في الموت “الدور الأكثر تعاسة، ليس من نصيب الذي رحل وما عاد معنيا بشيء، إنما من نصيب الذي سيرى قدر الأشياء بعده”، يوم تشييع جنازته لم أستطع الحضور، ليس الخوف من الموت هو ما يؤرقني.. فلن نموت قبل الموت، وإنما حاولت أن أحتفظ للراحل بصورة الرجل القوي في ذاكرتي.. وكتبت بحرقة الملتاع: “حين وصلني نعيه ليلة أمس، تيقنت لو أن شيئا على الأرض كان منطقيا لما حدث شيء على الإطلاق، وأن الموت هو مشكل الأحياء دوما، وعلى حرمه الأستاذة سعيدة وابنته الهدية الربانية إيناس وزوجها خالد القادري وحفدته الذين كان أعز ألفة لهم، وباقي الأحبة… أن يعودوا لفيء ظلال وثمار شجرة الذكريات الضخمة التي ترك لهم، وأن يتآلفوا مع كل أشيائه الحميمة، فالموتى لهم حيل جميلة يصرون على تركها لفتنة ورثتهم.. أكبر من المال والثروات، لأن الثروة الوحيدة التي تركها الراحل محمد سبيلا، هي حبه وفكره، وعلينا نحن أصدقاءه أن نعيد سرد أدق إشاراته وتفاصيل آخر لقاء لنا به ووشم الذكريات، وتأويل آخر ما نطق به، والاستسلام لوجع الفقد”.
على درب البدايات
تعرفت على محمد سبيلا باكرا، في مدرجات كلية الآداب بالرباط، كنت في نهاية عقدي الثاني، حين قادني صديقي الراحل أحمد العقاد الذي كان متخصصا في شعبة الفلسفة في منتصف الثمانينيات، إلى إحدى محاضرات مفكرنا، وبعدها هجرت الكثير من الدروس الثقيلة على نفسي في شعبة الآداب لأجدني في حضرة الأستاذين الكبيرين محمد عابد الجابري ومحمد سبيلا رحمة الله عليهما، وهو ما سيقودني إلى صداقة استثنائية مع المفكرين، كانت مع سبيلا أقوى بحكم تقاطعنا في مجالات العمل عن قرب، فقد ملتُ إلى الكتابة في جريدة “الزمن” التي كان الراحل سبيلا رئيس تحريرها، ومنذ 1996 سأصبح عضوا في هيئة تحريرها كمستشار، كانت الجريدة ملتقى أقلام وازنة: عبد الجبار السحيمي، العربي المساري، محمد ضريف، فتيحة الطايب، حميد لشهب، عبد الرزاق المروري وآخرين… إذ نجح محمد سبيلا في استقطاب كتاب ومفكرين وأقلام وازنة ل”الزمن” التي كانت نصف شهرية.
لقد جمع بيننا الانبهار، أو بلغة سبيلا دهشة العشق المتبادل لما نكتبه، هو في مجال تخصصه الفكري الذي كان عملاقا لا يضاهى فيه، وأنا في كتاباتي الصحفية المطعمة بأسلوب أدبي وبرؤية (بين قوسين) “فكرية”.. نشأت بيننا علاقة عشق ملفتة، كان والراحل عبد الجبار السحيمي قارئين مغرمين بكتاباتي كما سجلتها رسائلهما إلي وكانا دوما يوجدان في خلفية ما أكتب، أستحضرهما باستمرار كقراء مفترضين إلى جانب زوجتي الناقدة زهرة العسلي وخلي الشاعر مصطفى ادزيري.. ظلت ملاحظاته متسمة بطابع الصدق، سواء كانت سلبية أو إيجابية، واحترمت فيه قدرته على اتخاذ المسافة الضرورية اتجاه الأشياء والكلمات، وأتأسف كثيرا أني لم أنجح في تحويل كثير من التماعاته التي كانت تتخلل جلساتنا كل سبت بهرهورة أو بمنزله ذي الدفء المشع، إلى مقالات أو إبداعات، في كل لقاء معه كنت أحس كما لو أنني بصحبة رائد يقودني إلى أراضي قصية لم يطأها أحد قبلي أو سماوات بعيدة ببهاء لا يوصف أستطيع أن ألمس نجومها بيداي مثل ثمار دانية القطوف.
قبل لقائي بالمرحوم سبيلا في منتصف التسعينيات، حيث نشأت بيننا صداقة جميلة، كنت أبحث عن كلمات بلون الجمر، أو بسواد الفحم لتنجح في نقل ما أراه من أوجاع وما أحاول رصده من آلام، فعلمني إلى جانب الراحل عبد الجبار السحيمي، أن أحترم البياض وألا أغتصب براءته حين لا يكون لي ما أكتب.. وأنا في حضرة الصحافة التي تشبه فرن جهنم الذي لا يشبع ويقول دوما هل من مزيد؟ لذلك اتسم مسار عملي الصحفي بكثرة الانتقالات، لم أكن أستطيع البقاء في نفس المنبر أكثر من خمس سنوات، منت دوما في حاجة إلى الصمت والتأمل الضروريين للتجدد.. تعلمت من محمد سبيلا بعض الطقوس الجميلة للكتابة، وأنا الذي كنت أكتب في مقهى ضاجة أو مطعم كئيب، أو داخل سيارة أو داخل قطار أو حافلة، اعتقادا مني أن الكتابة معركة يجب أن يسمع المتلقي صراخ البسطاء، أنين المقهورين، وأن أُلبس كلماتي حذاء بكعب عالي يوقع الخطو بقوة ليلفت انتباه المسؤولين، فعلمني أن الكتابة عشق، والعشق لا يقترف إلا سرا، فأخذت أحرص على البهاء الإمبراطوري للوقوف في حضرة البياض خاصة في الكتابة الإبداعية.
القارئ الإمبراطوري
كنت ألقب الراحل سبيلا بالقارئ الإمبراطوري، إذ يذكرني دوما ببطل قصة حكاها المبدع أحمد بوزفور ذات ربيع بزاكورة، حول إمبراطور صيني طلب من فنان تشكيلي أن يرسم له جدارية تتضمن لوحة للطبيعة، قضى الرسام فترة طويلة وهو يخط جدارية القصر الإمبراطوري بطبيعة حية: أشجار وهضاب وواد يشق المراعي والمروج الخضراء وطيور تحلق في سماء زرقاء… بعد مدة طلب الإمبراطور إحضار الرسام على وجه السرعة، ركب الرعب الفنان وهو يقف بين يدي الإمبراطور وتساءل إن كان الإمبراطور لم يعجب برسمه، لكنه فوجئ به وهو يثني على جداريته المبهجة، فقط طلب منه إزالة الوادي من اللوحة لأنه يسمع هدير مائه ليلا وهو ما يجعله يفقد شهية النوم”.. وسبيلا كانت لديه أذن إمبراطورية، قارئ ذكي يلتهم الكتب ومفتون بقراءة الروايات، التي كلما استعرت منه واحدة لقراءتها بتوصية منه، كنت أجدها وقد خطت بقلمه، حتى أصبحت أقرأ نصين، نص الرواية المطبوع ونص موازي يتشكل من تعليقات وانطباعات سبيلا المخطوطة بقلمه الأسود غالبا.
كان شديد الصمت، يحب الإصغاء جيدا لمحاوريه، وحتى حين تتطلع إلى ملامح وجهه، لن تستطيع اكتشاف أي سيماء على محياه دالة على الرضا أو الغضب، على الاتفاق أو الاختلاف، وحين يتكلم تجد صوته دافئا وهادئا، نبرته تبدأ خافتة ثم ترتفع تدريجيا دون أي تشويش في الانتقال من مقام صوتي إلى مقام آخر.. فوق هذا كان للراحل محمد سبيلا جانب عاطفي جميل في العلاقات مع الأصدقاء، وهو السؤال المستمر مع أي غياب، وفي أكثر من مرة، في لحظات الانتقالات الصعبة بين منبر وآخر، كنت أجد سبيلا رحمه الله، يبحث لي عن الحلول أو يقترح علي الاشتغال في هذا المنبر أو ذاك، وهذا الأمر أكبرته فيه حتى وإن لم أطاوع فكرته، عدا تعاوني مع مجلة “الشعب” الباريسية التي كان يديرها الأخ حسن السوسي.
كان خطه فاتنا وآسرا.. حيث تتمايل الكلمات بكيرياء وتتسامى الحروف بسموق شجر السنديان تتراقص أغصانه على إيقاع موسيقى خفية، وتبدو كما لو أن له ظلالا شفيفة تبهج الروح، فمن شدة ظهور زينة المعنى الخفاء..
حيث الكلمات مجسدة على البياض بإيقاع هرموني ونبض حي للوزن، كنت دوما أقول له إن خطه يحمل كل جينات الكتابات الأولى لما قبل الإسلام في اللغة العربية، حول ما أسماه ابن جني في الخصائص وإن في سياق مغاير باب “تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني”، حيث الحروف والكلمات تحمل دلالتها من خلال صوتها أو رسمها، كنت أحس أن رسم سبيلا لكلمة موجة يأتي متموجا تسمع من خلاله انكسار موجة على شاطئ الرمل، صاخبا وناعما، وخطه لكلمة فج يحمل في ذاته التواءاته الطريق بين جبلين، ورسمه لكلمة أنشوطة على شكل حبل الموت، أو فخ الصياد أو السقوط بين أيادي أخطبوط عملاق، وكلمة “مأساة” تبدو في خطه مثل شفرة حلاقة جارحة وحزينة وهكذا دواليك.
المبهر المتوهج دوما
على الحداثة أن تلبس ثوب الحداد حزنا على أحد أعمدتها، وعلى الإيديولوجيا أن تبتهج لغياب من كشف تلاويناها وعرى عورتها في السياسة كما في الفكر والقول، وعلى التقليد أن يرقص طربا برحيل أحد ألذ أعدائه الذي كان يكشف مخابئه حتى وإن تخفى في أزياء الحداثة بسبب يقظة حسه النقدي..
محمد سبيلا كان أكبر من صديق وأعظم من أستاذ ومفكر، بحضوره الجليل تستعيد الأشياء وضوحها وبهاءها، وتنفض الكلمات عنها وطأة الاستعمال والاستهلاك لتصبح مبهرة، مبهجة في فصاحتها وإبانتها الشفيفة، لأنه كان صائغا يزن كل شيء بميزان من ذهب، كان صاحب أخلاقيات عالية يمج الخوض في النميمات الصغرى، وذاكرة متقدة تحفظ الصور والوقائع والأسماء.. لم أشعر يوما برفقته بتمزقات ووجع الشباك الفارغة للصياد، مثل نسيج من الأنغام المنسجمة، كان حديثه ذا هرمونية فائقة، ينساب بين خلجان اللغة بسلاسة يعز نظيرها، كنت وزميلي حميد لشهب نلقبه ب”الجنرال” الذي لا يُرفض له أمر، ونمزح مع كل جملة يقولها: “حاضر مون جنرال”، وكان حقا جنرالا بزي فكري لا عسكري.. تلميحات هنا وإشارات هناك، بعد كل جلوس مع هذا النديم، كنت أحس أنني مكتنز، أدخل حلقة اللقاء جاهلا وأخرج مثل حكيم، أسير ببطء كي لا يسقط أي شيء مما زخر به اللقاء من حمل وافر..
قبل حلول الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر، لا يمكن أن يمر شهر دون أن نلتقي، لا بد من أخذ “بركة الولي الصالح” ما استطعت إلى ذلك سبيلا.. ومع اشتداد وطأة الفيروس كنا نزداد قلقا على الراحل محمد سبيلا، نصر أنا وصديقي الراحل رشيد العلوي الذي اختطفه الفيروز اللعين بعده، نصر أن نجلس في المقهى المحادي لإقامته بأكدال بشارع عقبة، ثم نزوره لبضع دقائق.. نقف على مسافة أمان أمام منزله، يفتح الباب ويصر علينا بالدخول بطيبوبته وكرمه، لكننا نرفض.. حتى اعتدنا مثل هكذا لقاء، الذي كان يعيدني إلى ذكريات العشاق زمن الفرسان النبلاء وهم يقفون تحت شرفة من يحبون لتتناجى الأرواح دون أن تلتقي الأجساد.
كان ملهما حقيقيا للشلة القليلة التي ظلت محيطة به، شعلة من الأفكار والمواضيع والتلميحات والإشراقات التي تصيب ولا تخيب..
مصباح ديوجينيس
يعتبر الراحل من المفكرين القلائل الذين اشتغلوا على مشروع فكري ضخم، كان مبتدأه ومنتهاه البحث عما أسماه بالشرط الحداثي، فقد انشغل الراحل بإشكالية الإيديولوجيا في زمن كانت تبدو السياسة هي المحور الأساسي للكينونة البشرية، وبعدها بأسئلة الحداثة والتحديث واعتبرهما محددين لشرط الوجود الإنساني وتحديث وعينا بالتاريخ والوجود والعالم.. فالحداثة بالنسبة إليه لم تكن تعني أكثر من الانتساب إلى الزمن والإنصات إلى أسئلته، لذلك لم يبق حبيس التنظيرات الفلسفية للحداثة وما بعد الحداثة، بل انطلق نحو مجال أرحب، بتوجيه البحث نحو إشكالات أعطاب الحداثة في الفكر والمجتمع، وخصص جزءا من وقته لثيمات الديمقراطية والسياسة وحقوق الإنسان والأخلاق وتفكيك الأماكن المعتمة التي يختبئ فيها التقليد الذي أصبح له ألف قناع، يتمدد بوجه حربائي في كافة أنشطتنا وسلوكنا، ولم يوقر وعيه النقدي ومهماز بحثه لا اليمين ولا اليسار، لا الأصولي ولا الحداثي، لا المجتمع ولا النخب التي تتحدث باسمه…
إذ ظل سبيلا مناصرا للحقيقة التي اعتبر أنها بنت زمانها، وليست بنت أي سلطة، لذلك فعمله الكبير لا يكمن فقط في مشروعه الفكري الذي كرس له اجتهاده حول الحداثة والإيديولوجيا وتقعيد أسس العلوم الإنسانية، بل في تشجيع البحث في التفاصيل التي يكمن فيها شيطان التقليد: المرأة، السياسة، اللغة، التقنية، حقوق الإنسان…
لم يتخذ الفلسفة كتخصص نظري، بل كتجربة في الحياة، بحيث تلمس وعيا نقديا حادا في الدردشة معه في أي موضوع، يفكك ما يختفي وراء الانطباعات العامة، يذهب بك عميقا نحو جذر “تلك الاستعارات التي نحيى بها” بتعبير الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي صديقه وخله..
بالإضافة إلى البعد الأخلاقي في علاقاته، فهو قليل الخوض في تلك النميمات الصغرى التي تجري بين المثقفين في الصالونات الخاصة عادة، إنه لا يستثير ذاكرته حول الأشخاص إلا إذا كان للأمر دلالة في سياق الحديث أو في شرح فكرة، أو تفسير سلوك.. من ثم ظل يواجه خصومه العاقلين بالمنطق، والسذج منهم بالصمت والابتسامة التي كانت تهزمهم.. تعرض سبيلا إلى الكثير من التهميش من طرف حماة التقليد في اليسار كما في اليمين، لدى مدعي الحداثة والتقدمية كما لدى حراس الظلام، لذلك تولد لديه وعي نقدي فيبري (نسبة إلى ماكس فيبر) لإدراك أن الشيطان يوجد في قلب السياسة وأن الأخلاق مهما سمت همة الفاعل السياسي، كانت تبدو مثل كلمة لبناء جملة لجلب المريدين وحشد الأتباع.. وفي معيشه اليومي كان ميالا لمهج الحياة بغير إفراط، كأنه يردد صرخة “جاليليو” برتولد بريخت: “أقدّر متع الحواس، ولا أحتمل النفوس الضعيفة التي تحسب هذا نوعا من الضعف، إني أقرر أن الاستمتاع فعل كريم”.. لقد ظل ميالا للانتصار للحياة.
عدو التقليد أنّى اختفى
في مسار بحثه الطويل في القضايا الفكرية التي شغلت باله منذ أطروحته حول الإيديولوجيا، كان الراحل محمد سبيلا يشعر بأن له وظيفة أن يجر العرب من “قرونهم” من أسر التقليد إلى فضاء الحداثة، ليدركوا حجم التغير الذي أصاب العالم والالتفات إلى بعد الزمن، عبر الانتقال من عالم الوهم: “قدسية التراث، قدرة التقليد على التجدد، عائق الأصالة والخصوصية، فتنة المقدس، أعطاب الحداثة الشكلية”… وكل أشكال المسوخ التي جعلت العرب خارج الشرط الحداثي الذي به يتحدد وجودهم الفاعل والمتفاعل مع التبدلات المصاحبة للزمن.. إلى عالم الحقيقة، ضرورة الولوج إلى الحداثة بعد التخلص من أوهامها، حيث يبدو العرب اليوم كما بطل مسرحية (الحياة حلم) للكاتب الإسباني “كاليدرون دي لاباركا”، وقد اختلطت الأمور عليهم حتى لم يعودوا يميزون بين عالم الوهم وعالم الحقيقة الذي ليس من معنى غير الانخراط في الحداثة والانتقال من الجبرية إلى الحرية.
لا ينسى الكثيرون الدور الكبير الذي لعبه محمد سبيلا في منشورات “الزمن” للراحل عبد الكبير العلوي الإسماعيلي، فالعديد من المؤلفين الجادين ما كانت لتنشر مؤلفاتهم الرصينة لولا وجود الراحل سبيلا، لقد كنت في قلب الدار وأعرف ما كان يقوم به من عمل جبار في البحث عن الأسماء الجادة والبحوث التي تناولت مواضيع وازنة حتى وإن بدت هامشية، كما لو كان يزرع نبتاته في حقول شاسعة، وقد افتقده الكثير من الباحثين والكتاب الذين كان سندا سريا لهم، كما فقدت الثقافة الوطنية سبيلا الذي كان يحمل هاجس دعم الحداثة ونشر التنوير.