كان العقل الكلاسيكي شغوفا بالدّقة، تلك الغاية التي لم يتسنّ له تحقيقها إلاّ بالإستناد إلى نظام معرفي يوحي بالإكتفاء والحدود والإستنتاج العام، اعتقد تاريخيا بأنه أحرز الدّقة، وبذلك اكتسبت اللاّدقة سمعة سيّئة حتى كادت تضارع الجهل.
كان الفيزيائي النيوتوني يجد في الميكانيكا معالم الدّقة، وكذا في الهندسة والرياضيات، قبل أن تتفجّر حسابات الإحتمال، وقبل أن تطفو على السطح لادقّة هايزنبرغ، وكان لا بدّ أن تستعيد اللاّدقة – وهو اصطلاح لا يفي بالغرض – مكانتها في العلوم، ذلك لأنّ اليقين بات مرعبا في العلوم. ثمة دائما شيئ ما محتمل، فالقول باستحالة الدّقة هو دقّة في الاستنتاج، أي دقّة اللاّدقّة، فكان أحرى أن نعتبر اللاّدقّة هنا كحكم دقيق واستنتاج عميق لقياس الظاهرات، بأنّها دقّة فهم حركة الأشياء ووضعيتها.
ليست اللاّدقّة هي نقيض اليقين، ولعل تلك هي ما أدّى إلى سوء الفهم الكبير، فاللاّدقّة كالإحتمال، هي عين اليقين، لأنّها ترفع عن العقل عناء الوقوع في مُغالطة الأشياء، ذلك لأنّنا بالفعل قد نصادف ظواهر يصعب مباشرتها بأحكام ميكانيكية، حيث الحركة لا تسمح بالقياس، لا بل إنّ التّدخّل كما قلنا مرارا، يفسد تموضع الأشياء ويخرم نظام المصفوفات.والقياس ليس محايدا إزاء موضوعه – ومن هنا مهازل النظرة الميكانيكية لمفهوم الموضوعية – بل هو فاعل متدخّل مؤثّر في وضعيته.
وإذا كان المطلوب هو بلوغ منطق الأشياء، فإنّ همّ قياس الأشياء بدقّة، إن كان هذا أمرا مستحيلا، كمن يسعى لقياس ظل يده بيده، فإنّه ضرب من تبلّد أحاسيسنا حيال الظاهرات، إنّ استحالة قياس شيء لأسباب تتعلّق بمنطق الحركة، هو حكم يقيني، وهكذا تبدو اللاّدقّة دقّة ويقينا وفهما عميقا لمنطق الأشياء.
لقد تحركت الأشياء من حولنا، لا بل لقد أدركنا أخيرا بأنّ الأشياء بما فيها نحن، في حراك دائب، وبأنّ المدى الذي تحتله المادة أبعد وأعمق مما أمكننا إدراكه حين كان الإمتداد يحمل معاني تبسيطية، ربما ما كان يعتبر بعدا للمادة ديكارتيا لم يعد مناسبا لرؤية ليبنتز للإمتداد، وهنا في إعادة قراءة تاريخ الطبيعة أجدني أمنح قيمة لتلك السرديات القديمة والميثولوجيات، لأنها أوسع أفقا، وربما آن الآوان لفلسفة العلم أن تعود إلى هذا الميراث الذي لم يقطع مع الخيال في تدبّر الطبيعة.
نعم، أصبح من الضروري اقتحام الشروط الأيديولوجية لقانون الحالات الثلاث، والبحث عن أساطير متجددة لتأسيس مغامرات علمية جديدة، إن حاجة العلم، بل تعطّشه للخيال لا تضاهى، فهل نحن في مستوى الإستغناء عن الميثوس في قيام اللّوغوس؟ نذكّر مرة أخرى بأنّ المشكلة تكمن في التّوحد والميل إلى طرف والسبّات على مخرجاته، بينما سيظل الخيال ضرورة، من دونها سيصعب اختراق المادّة، يجب أن نسبقها قليلا ونسجل ما يكفي من افتراضاتنا حول الظاهرات وكأنّنا نحقق مع التنظيم السّرّي للطبيعة.
وكان من الضرورة أيضا، أن لا نثق كثيرا في مُلاوغاتنا، فالمصطلح لا يحتوي الظّاهرة، بل هو ملامسة أشبه بغواية تلعب فيها اللحظة دورا كبيرا، لكن الظواهر الطبيعية في حالة انكماش مستمر، تلك طريقتها في الامتناع. تفرض الظاهرة على العقل مهمّة صعبة، جريانا غير محدود، لا يوجد حولنا ظواهر نهائية، ومن هنا لا يوجد الحسم، والنهاية، والإستنتاج الأخير.
هنا تكمن روح العلم، وهنا نكون أمام مناهج أشبه بأدوات تزحلق على متن الظاهرات، لنكن على استعداد أن نفقد مفاهيمنا ونجددها لنكون في مستوى مخاطبة الظاهرة والمؤانسة مع الطبيعة، فتاريخ العلم هو في الحقيقة تاريخ الخيال نفسه، ولكن ماذا أخسرتنا النزعة إلى الدّقة – بالمعنى التقليدي للعبارة – من حقائق في العالم وفي صميم الأشياء؟ يحدث هذا في طبقات المشهود وغير المشهود الفيزيائي فما بالك بعلوم الإنسان الاجتماعية، ما بالك بفوتون المعنى المتحرك ضمن مدارات تفرض تعقيدا مستداما من عملية وصل الأوْل بالمآل، أي التأويل، أي تظهير المعنى أكثر من مرة وفي أكثر من اتجاه. علينا إذن أن نتقبّل العالم في لادقّته (الدقيقة) في إحتماليته (اليقينة)، هكذا في حركيته التي تترك دوما للمآل شيئا من الحقيقة والمعنى..