– الاندهاش في السياسة، هو من تجلّيات الْتِباس حقائقها، تنتهي الدهشة متى مسكنا بتلابيب علمها وقواعد لعبتها المفضّلة وغير المفضلّة. ما الفائدة من محاكمة السياسة – في شروطها الصعبة – بالمبادئ، حيث قواعد الإشتباك فيها تقتضي خيانتها؟
– في إقليم يتموّج، ما معنى تحليل الخطاب؟ لا سيما إن كانت عملية صنع الخطاب هي جزء من نسق عَلاَمِي حاجب، مقيّد، مشاغب ضدّ بوحها السيميولوجي. علم السياسة وفلسفتها يقتضي استيعاب لغتها، علم سياسة من دون سيميولوجيا هو جزء من التخفيض، أيضا الـ(de la politique en réclame). حينئذ لا تدهشنا بهلوانية الانزياح السياسي، لأنّ السياسة ليست فقد ممارسة درامية، بل هي في أغلب الأحوال كوميديا. وأن لا نندهش لا يعني أن نبرر بهلوانياتها.
– أتابع قبل أيام برنار هنري ليفي، وهو يواصل نقمته على بوتن واصفا إيّاه بالإمبريالية الروسية، وبأنه يسعى لإضعاف الغرب، ولأنه يهدد بضرب الاحتلال. ثلاثُ تهم كافية لتبين موقعية فيلسوف الربيع العربي، الذي ظننا أنه تجاوز التحليل الـ(ضد-إمبريالي) الذي سخر منه إبان الحراكات العربية، لكنه عاد ليحدثنا عن الإمبريالية الروسية، بهذا المعنى، الغرب ليس إمبرياليا ولا الاحتلال احتلالا. كم هو مُقرف أنّ يتحدث برنار هنري ليفي عن ميشيل فوكو عن سارتر عن فلاسفة يعلن انتماءه لطريقتهم، هذا يؤكد صحة المثقفين المزيفيين عند باسكال بونيفاس.
– جرائم الاحتلال لم تعد في حاجة إلى مزيد من الأدلة، لكن شعبا وقع عليه كلّ هذا العدوان يؤكد على أنّ الاحتلال كان مدركا بأنّ الجيل الجديد لم ينس، وبأنّه تجاوز عقدة الهزيمة التّاريخية، ومن هنا عاد ليذيقه من كأس الإبادة ما يجعله لا يفكّر في الكفاح الوطني. الدرس الذي يصعب على الإمبريالية والاحتلال استيعابه حتى الآن، هو أنّه لا يمكن احتواء المستقبل واحتمالاته، وبأنّ كلّ جيل سيحمل ما لم يحمله الجيل السابق من إرادة التحرير. إنّ درس غزة بالفعل هو درس تاريخي، لا نستطيع التنبُّؤ بتفاصيل بنية مُشتعلة.
– كل شيء اليوم أصبح تحت طائلة رفع الكُلفة، التخفيض، الإنسان نفسه فقد حتى الميزات الكلاسيكية لما قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لقد تورّط النظام الدولي في استلهام بعض مبادئ ذلك العهد، لأنّ الحرب العالمية مكنت من الإلتفاف على القانون الدولي لحقوق الإنسان، الانتقاء والتطبيق التمييزي لمبادئه، لما سماه وليام بلوم باللاّمفكر فيه، في تلك المحاكمات التي منحت الامتياز للغالب. اليوم وبعد ما جرى في غ..زّ..ة، كيف يمكن تصور مصير القانون الدولي، وحقوق الإنسان، والعلاقات الدّولية؟
– تصلني رسالة من بعض المتتبعين من أهل الرأي في بلدنا، عشية إعلان أوردوغان عن نية فتح حوار مع الرئيس بشار الأسد، سواء بأن يزوره بأنقرة أو هو يزوره بدمشق، المهم انتهى الكلام. ويعلق البعض من هؤلاء الفُضلاء: لقد دار الزمان وتحقق صحة كلامك سي ادريس. أقول شكرا، هذا السيناريو كان واضحا لديّ بلا نتفة شكّ، لسبب بسيط، هو أنّ المقاربة الجيوستراتيجية كانت حاضرة من مبتدأ الأزمة إلى خبرها، غياب كلّ الحسابات الصغيرة المشوشة، غياب النيئة السيئة، غياب الحقد والعناد، توفّر المعطيات وعدم الاستسلام للعبة الإعلام ومن وراءه، استحضار دور الإمبريالية في جوهر اللعبة، لا أدري عن أي حوار يتحدّث أوردوغان، وقد رفض الحوار منذ البداية، وحيث كان الخلاف حول السيادة، لقد أراد أن يفرض إملاءاته على دمشق في الوقت الذي لم يستطع أن يفعل ذلك كولن باول، بل حاول الضغط لتغيير النظام الرئاسي السوري، قبل أن يقوم هو بتغيير النظام التركي من برلماني إلى رئاسي طلبا لصلاحيات أوسع للرئيس، ثم احتلال أجزاء من التراب السوري، وضخِّ سوريا بصبيب من الدواعش.. من سيناقش من، وعلى ماذا؟
إنّما يؤلمني حقّا أنّ النقاش لو كان في البداية لما حصل كل هذا الخراب عبثا. أين أولئك الذين أقسموا بالأيمان المغلّظة بأنّ النظام سيسقط بعد شهور بل أسابيع بل هناك من تحدث عن أيّام؟ فيلم كارتون أضحك فأبكى. طبعا هناك من سيحقدون على كاتب السطور لسبب بسيط: كونه لم يتغير في رأيه وموقفه، لكن ما ذنبي؟
– هذا لا يعني العدمية، بل لا بدّ من وعي تاريخي بالأحداث، الوقوف عند العلل الأولى، وسيكون حتما السّلم خير على الرغم من بؤس السياسات، لكن ما مصير كلّ هذا الصبيب من أحكام قيمة؟ هذا ما عنينا به في كل مناسبة حول لعبة البروباغاندا، بأن صناع الرأي العام غير معنيين بسمعتهم ومصداقيتهم، لأنّ التضليل غالبا ما يراد منه إنجاز مؤامرة في زمن محدد، ولا يهمّ التحقق من بعد.
وحينئذ قلنا: سيبسط البساط الأحمر للرئيس، وها قد بدأت القصة في اجتماع جامعة الدول العربية، ولكنها ستبسط بحيوية أكثر في أنقرة، إنْ قبل الرئيس الأسد بتلك الزيارة، مع أنّ المطلوب أن يأتي الأنقري إلى دمشق.
– كنت أدرك منذ عقود أنّ الحقد على سوريا مزمن ومتأصِّل في نفوس سُرّاق الله، لأسباب لا مجال لتكرارها، عداء غير جديد، وتجهيل للأجيال، ومن هنا كان لا بدّ أن نقف، لقد ظنوا أنّها اللحظة التّاريخية المناسبة لتصفية الحساب، لكنهم راهنوا على الوهم. الطمطام كان عملاقا، ووصل دَوِيُّه في نغمات متوحشّة إلى آخر القبائل المتحششة. وكل شيء كان يجري بلغة المبرّة الخيرية للشعوب، الديمقراطية التي لهج بها لسان ساكنة ضيعة ضائعة، كوميديا بكل ما تعني الكلمة، ويا ما نبهناهم فلم ينتبهوا، ويا ما أشرنا إليهم فلم يفهموا كما قال السهروردي في الغربة الغربية، بل وكما ختم داعيا: وارفع عنا قيد الهيولى. لقد قرر سراق الله الإطاحة بسوريا، وتلك أمانيُّهم، ولكنهم لم يأخذوا كلام الأسد مأخذ الجدّ في موقفين:
الأول: جوابا على الصحفي غداة إقامة قياس مع الفارق، بين ما حدث في مصر وما حدث في سوريا: بأنّ سوريا ليست هي مصر.
الثاني: حين قال الأسد، سوريا الله حاميها بقرار شخصي.
في علم كلام السياسة، كان الأسد أكثر إيمانا من سراق الله، لأنّهم اعتمدوا على الناتو وهو اعتمد على الله في تدبير الأزمة.
– لقد حفر خصوم سوريا حفرة وقعوا فيها، ومنها العضّ على طعم مَسْرَحَة الوضع السوري، وصناعة النّزوح قبل إشعال البلد بالحرائق، وفي النهاية، تشظّي عش دبابير الإرهاب في المنطقة، تشكّل قوى انفصالية تهدد أنقرة نفسها، تحوّل النزوح إلى تكلفة تدفعها أنقرة وحدها بعد انسداد سوق النزوح في أوروبا. وحتما في جعبة أوردوغان الكثير من المطالب تخص مخرجات سياسته الخاطئة: مطلب يتعلّق بقسد، مطلب النازحين وعودتهم، تطبيع علاقات على أساس عفى الله عمّا سلف.
حتما لم يعد يهمّ ما سيترتّب عن مخرجات كفاح مرير انقلبت فيه الحقائق والصور، ولكنني حزين فقط على عدد ضحايا الحرب، الخراب المهول، تسميم الوعي، حسرتي على عالم هشّ وفاقد للمناعة، ومرتهن للتضليل الإعلامي وألاعيب الإمبريالية، عالم مستأنس بعبوديته في عصر العبودية النّاعمة.
عن عالم عربي مندمج في سُعار التّآمر، وعاجز عن التحرر من الطّاقة السلبية والوعي التبسيطي للأحداث، وعي عربي في عمومه لا زال منقسما حول الموقف التّاريخي المطلوب.