شادي منصور
منذ فجر التاريخ، شكّلت إيران بأطوارها الإمبراطورية القديمة والجمهورية الحديثة إحدى أكثر القوى تأثيراً في مسار الشرق الأدنى.
فالإمبراطوريات الفارسية التي قامت على أرضها لم تكن مجرد كيانات سياسية، بل مراكز لصراع مستمر مع القوى المجاورة، صاغت جغرافيا المنطقة، ورسمت حدود النفوذ بين الشرق والغرب.
ومن الحروب التي خاضها الأخمينيون مع اليونانيين، إلى المواجهات الساسانية مع الرومان، وصولاً إلى صراعات إيران الحديثة مع العراق وإسرائيل، يتبيّن أن الصراع كان دوماً جزءاً من تكوين الدولة في هذه المنطقة الحيوية.
بدأت ملامح الصدام الفارسي الأول مع العالم الغربي، حين قرر داريوس الأول التوسع نحو أوروبا، ليجد نفسه أمام مقاومة شرسة من المدن اليونانية. جاءت معركة ماراثون سنة 490 ق.م لتشكل أول هزيمة كبرى للإمبراطورية الأخمينية، وأول كسر لطموحها الأوروبي.
هذه المعركة لم تكن ذات معنى عسكري فحسب، بل كانت لحظة نفسية مفصلية؛ فمنحت اليونانيين ثقة بأنفسهم، وشجّعتهم على توحيد صفوفهم في مواجهة قوة عظمى كانت تُعد حينها الأكبر في العالم. ومع تولّي خشايارشا الأول الحكم بعد سنوات، حاول الفرس استكمال المشروع نفسه.
ورغم تمكنهم من اجتياز ثيرموبيلا، فإن الهزيمة البحرية القاسية في سالاميس قلبت المعادلة تماماً، وأبقت أوروبا خارج المجال الفارسي. لقد ساهمت تلك الحرب في ترسيخ الانقسام الحضاري بين الشرق الفارسي والغرب اليوناني، وهو انقسام ستتردد أصداؤه في الفكر والسياسة لقرون لاحقة.
لكن الضربة الأكبر للإمبراطورية الأخمينية لم تأت من الغرب القريب، بل من مقدونيا البعيدة، حين قاد الإسكندر الأكبر جيشاً شاباً نحو قلب آسيا. وجسّدت معركة غوغميلا سنة 331 ق.م اللحظة التي انتهى فيها الحكم الأخميني، وأُسّست على أنقاضه الحقبة الهلنستية.
لم تكن غوغميلا مجرد سقوط دولة، بل انتقالاً حضارياً واسعاً، إذ أدت إلى صهر عناصر من الثقافة الفارسية في الإطار الهلنستي، وترسيخ نمط إداري وثقافي جديد سيمتد تأثيره لقرون طويلة.
ومع قيام الدولة الساسانية، استعادت فارس مكانتها قوةً كبرى، لتدخل في حروب طويلة ومرهقة مع الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية. وعلى الرغم من أن الفرس حققوا انتصارات مهمة، وانتزعوا مدناً كبرى مثل أنطاكية في بعض المراحل، فإن تلك الحروب المتتابعة استنزفت موارد الإمبراطوريتين، ودفعت كلاً منهما إلى حافة الانهيار.
وحين ظهر الإسلام في الجزيرة العربية، كانت فارس قد أنهكتها سنوات الصراع الطويل. جاءت معركة القادسية سنة 636 م لتشكل البداية الفعلية لسقوط الدولة الساسانية بعد هزيمة ساحقة تبعتها معركة نهاوند، التي يسميها المؤرخون “فتح الفتوح”، إذ أنهت المقاومة الفارسية، وفتحت الطريق أمام اندماج إيران في العالم الإسلامي.
لكن هذا الاندماج لم يكن استيعاباً كاملاً، بل تحوّلاً عميقاً سيجعل من الثقافة الفارسية أحد أعمدة الحضارة الإسلامية لاحقاً.
دخلت إيران العصر الحديث بماضيها الإمبراطوري وخبرتها الطويلة في الحروب، لتجد نفسها بعد قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979 أمام صراع وجودي جديد. فبعد الثورة مباشرة، اندلعت الحرب العراقية–الإيرانية سنة 1980، وهي من أطول الحروب في القرن العشرين وأكثرها دموية.
شنّ العراق بقيادة صدام حسين هجوماً واسعاً على الأراضي الإيرانية، ظناً أن النظام الجديد ضعيف وغير مستقر. لكن إيران، رغم العقوبات الدولية وقلة السلاح، استطاعت الصمود لثماني سنوات، مستندة إلى تعبئة شعبية ضخمة ودور متنامٍ للحرس الثوري.
أدت هذه الحرب إلى خسائر بشرية تتجاوز المليون بين قتيل وجريح، واستنزاف اقتصادي هائل للطرفين. وعلى المستوى الاستراتيجي، شكّلت الحرب لحظة تأسيسية لعقيدة الأمن القومي الإيراني الحديثة، التي تقوم على مفهوم الردع، والاعتماد على الذات، وتطوير القدرات الصاروخية باعتبارها بديلاً عن التفوق الجوي الذي تفتقر إليه طهران.
خرجت إيران من الحرب مع العراق وهي مقتنعة بأن البيئة الإقليمية معادية، وأن المخاطر لا يمكن مواجهتها بسرعة تقليدية، فبدأت مرحلة جديدة من الصراعات غير المباشرة. اعتمدت طهران على بناء شبكة نفوذ ممتدة في المنطقة، من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن، عبر ما سُمّي لاحقاً “محور المقاومة”.
هذا التحول لم يكن مجرد خيار إيديولوجي، بل نتيجة مباشرة للدروس المستخلصة من حرب الثماني سنوات: ضرورة بناء عمق استراتيجي يمنع تكرار سيناريو 1980، حين وجدت إيران نفسها من دون حلفاء، ومن دون خطوط دفاع خارج حدودها.
وقد تغيّر ميزان القوى الإقليمي إلى حد بعيد خلال تلك الفترة، خصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، الذي سمح لطهران بتعزيز نفوذها داخل الدولة العراقية ومؤسساتها.
ومع اندلاع الحرب السورية سنة 2011، دخلت إيران في أكبر تدخل عسكري خارجي لها منذ نهاية الحرب مع العراق. رأت طهران أن سقوط النظام السوري سيقطع خط الإمداد الحيوي بينها وبين لبنان، ويضعف حضورها الإقليمي لمصلحة خصومها.
لذلك أرسلت مستشارين من الحرس الثوري، ودعمت تشكيلات محلية، وشاركت في عمليات عسكرية واسعة بالتعاون مع حلفائها. هذا التدخل جعل من سوريا ساحة صراع مفتوح بين إيران وإسرائيل، إذ أصبحت الضربات الجوية الإسرائيلية على مواقع إيرانية جزءاً من المشهد الأسبوعي تقريباً، وبدأ ميزان الردع يتغيّر تدريجياً.
بلغ هذا التحول ذروته في المواجهة المباشرة التي حدثت بين إيران وإسرائيل عامي 2024–2025، حين نفذت طهران لأول مرة هجوماً مباشراً بالصواريخ والمسيرات على الأراضي الإسرائيلية، وردّت إسرائيل بضربات داخل العمق الإيراني. هذا التصعيد غير المسبوق كسر قواعد الاشتباك القديمة، وأدخل المنطقة في حسابات جديدة تماماً، خصوصاً في ما يتعلق بالعقيدة النووية الإيرانية.
فالطبقة السياسية في طهران باتت تناقش بجدية أكبر مدى استدامة الامتناع من امتلاك سلاح نووي، في ظل امتلاك خصومها قدرات نووية مباشرة أو غير مباشرة. لقد أعاد هذا الاشتباك فتح ملف الردع النووي، وأعاد طرح سؤال قديم بصورة أشد إلحاحاً: هل يمكن لدولة تواجه هذا الحجم من المخاطر أن تبقى خارج النادي النووي؟
إن قراءة مسار الحروب التي خاضتها الإمبراطوريات الفارسية، ثم إيران الحديثة، تبيّن أن هذا البلد لطالما كان في وضعية دفاع عن مجاله الحيوي ومصالحه الاستراتيجية، سواء في مواجهة اليونانيين، أو الرومان، أو العرب، أو القوى الإقليمية المعاصرة.
وهي أيضاً تفسّر كيف شكّلت الحروب المتعاقبة عقل الدولة الإيرانية، وأنتجت مزيجاً من البراغماتية والاندفاع العقائدي. فالإرث العسكري القديم، مقروناً بالخبرة الحديثة، يجعل من إيران لاعباً يصعب توقع قراراته، لكنه في الوقت ذاته لاعب يفكر دائماً بمنطق الردع وحماية العمق الجغرافي.
من هنا، سيبقى مستقبل المنطقة مرتبطاً بشكل وثيق بالإجابة عن سؤال مصيري: هل تظل إيران على عقيدتها النووية الحالية، أم تتجه نحو إعادة صياغتها بما يغيّر قواعد اللعبة بالكامل؟




