أفريقياحديث الساعة
أخر الأخبار

التصوف بين الانحراف والالتزام: قراءة في المشهد الصوفي بشمال إفريقيا والمغرب

.. في المغرب، فإن المشهد الصوفي يعيش اليوم حالة من الانحراف عن مقاصده الأصلية. فبعض الزوايا لم تعد تؤدي دورها التربوي والروحي كما كان عليه السلف الصالح، بل تحولت إلى مراكز نفوذ خارج الإجماع..

هذه المرة سيكون النقاش حول التصوف في شمال إفريقيا، والمغرب على وجه الخصوص، حيث يُعد من أبرز المباحث التي استأثرت باهتمام المؤرخين والباحثين.

فقد كثرت الدراسات والمؤلفات التي تناولت الظاهرة الصوفية بمختلف تجلياتها، لتكشف عن جملة من المؤاخذات، أبرزها غياب التأصيل الشرعي الواضح للتصوف الطرقي، إضافة إلى الخلط بين السلوك الروحي المنضبط وبين الطرق الصوفية التي تحولت مع الزمن إلى مؤسسات ذات نفوذ اجتماعي وسياسي.

لقد كان التصوف في نشأته الأولى انعكاساً لمرحلة تاريخية ضعف فيها النقاش الفكري داخل العالم الإسلامي، بخلاف ما شهده الفكر الإسلامي في العصر العباسي من ازدهار علمي وتنوير فكري.

ومع فترات الاستعمار الأوروبي، خصوصاً الاستعمار الفرنسي، استُخدم التصوف كأداة إيديولوجية، وظل محصوراً في نطاق تاريخي معيّن، ما جعله خاضعاً لتأويلات تتجاوز أصوله الشرعية.

1- التصوف السني: المنهج الأصيل

رغم هذه المؤاخذات، فإن التصوف السني ظل مدرسة إسلامية أصيلة تقوم على الالتزام بالكتاب والسنة، وتوازن بين العلم والمعرفة والفعل الأخلاقي والسلوك العملي، بهدف تزكية النفس والتقرب إلى الله.

وهو تصوف معتدل يرفض الغلو الفلسفي ويستند إلى نصوص الوحي كمقياس أساسي.

ومن هنا تأتي ضرورة رد الأمور إلى أصولها، وتصحيح المفاهيم، لفهم الأدوار الروحية والاجتماعية للتصوف في ظل الحركية التي تعرفها المنطقة المغاربية.

2- التصوف الفلسفي والانحرافات

ويختلف التصوف الفلسفي جذرياً عن التصوف السني، إذ إنه تيار يمزج بين الممارسات الصوفية والتحليلات الفلسفية، ويركز على الباطن والكشف الذوقي بعيداً عن المنهج الشرعي والعقلاني.

هدفه المعلن هو الفناء الذاتي والاتصال المباشر بالله، لكنه في العمق يفتح الباب أمام تحريف العقيدة الإسلامية.

وقد نبّه كثير من العلماء إلى خطورة هذا الاتجاه، وفي مقدمتهم ابن تيمية، وابن الجوزي، وابن القيم، الذين انتقدوا هذه الانحرافات بشدة، مع تأكيدهم على قيمة التصوف السني المنضبط.

ابن تيمية والتصوف السني

من هنا يمكن القول بأن ابن تيمية يعتبر من بين القلائل الذين درسوا التصوف بموضوعية، ففرّق بين الصوفية المنحرفة والصوفية السنية.

وقد أثنى على مسلك الجنيد وغيره من أعلام التصوف السني، واعتبرهم امتداداً لأهل الحديث والمعرفة، مؤكداً أن التصوف الحق هو الإحسان الذي ورد في حديث جبريل: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.

وبذلك رسّخ مفهوم التصوف السني في أذهان غير المنتسبين إليه، وحفظ له مكانته ضمن الدين الإسلامي الصحيح.

المشهد الصوفي في المغرب: التحديات والرهانات

أما في المغرب، فإن المشهد الصوفي يعيش اليوم حالة من الانحراف عن مقاصده الأصلية. فبعض الزوايا لم تعد تؤدي دورها التربوي والروحي كما كان عليه السلف الصالح، بل تحولت إلى مراكز نفوذ خارج الإجماع، مما يستوجب الحذر واليقظة من الجهات المعنية، حفاظاً على نقاء المرجعية الدينية للمملكة.

المغرب، الذي اختار منذ أكثر من اثني عشر قرناً المذهب المالكي عقيدةً وفقهاً، نجح في تحقيق وحدة مذهبية ودينية بفضل هذا الاختيار، معزَّزاً بدور مؤسسات علمية راسخة كجامع القرويين والمدرسة الفاسية.

كما أن مؤسسة إمارة المؤمنين، التي يقودها جلالة الملك محمد السادس، تمثل الضامن الأعلى لهذه الوحدة، بما تحمله من شرعية دينية وتاريخية متجذرة في الدولة العلوية الشريفة المنحدرة من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

إذن انطلاقاً من هذا العمق التاريخي والديني، فإن المملكة المغربية ليست بحاجة إلى إثارة “زوبعات” تسيء إلى وحدتها الروحية أو تمس إمارة المؤمنين.

بل هي اليوم نموذج يُحتذى به في إفريقيا والعالم العربي والإسلامي، حيث يلتقي الإسلام والإيمان والإحسان في وحدة متكاملة، تجعل من المغرب قدوة في الاعتدال الديني والتوازن الروحي والسياسي.

لهذا التصوف في المغرب بات بين الأصالة والانحراف، فهو مدرسة روحية أصيلة قائمة على الكتاب والسنة، غير أن بعض الزوايا حوّلته إلى نفوذ سياسي واجتماعي يهدد المرجعية المالكية.

ختامًا إن الوضع الحالي يفرض الحذر واليقظة، فالتصوف المنحرف لم يعد مجرد ممارسة دينية بل تحول في بعض الحالات إلى أداة نفوذ تهدد نقاء المرجعية المالكية، مما يستدعي تدخل المؤسسات لضبط المسار وضمان استمرار ريادة المغرب الدينية تحت إمارة المؤمنين.

المطلوب، وبشكلٍ عاجل: يقظة وتصحيح، فالمغرب تحت إمارة المؤمنين يشكل قدوة إسلامية في الاعتدال. 

https://anbaaexpress.ma/aor9d

عثمان بنطالب

ناشط حقوقي دولي خبير في الشأن المغاربي و الإفريقي، مدير عام أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى