تضع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ملف المعادن النادرة في قلب استراتيجيتها الجيوسياسية، بعد أن أدركت واشنطن أن الهيمنة الصناعية والعسكرية لم تعد تُبنى فقط على النفط والتكنولوجيا، بل على السيطرة على العناصر التي تُشغّل محركات المستقبل، من الطائرات المقاتلة إلى أنظمة الطاقة المتجددة.
أمام تمدد النفوذ الصيني في هذا القطاع، تحاول الولايات المتحدة التحرر من قبضة بكين التي باتت تتحكم في معظم سلاسل توريد المعادن النادرة، وتستخدمها كورقة ضغط سياسية واقتصادية، مما دفع إدارة ترامب إلى التحرك بسرعة وعلى نطاق عالمي بحثاً عن بدائل.
تقرير موقع “أكسيوس” يكشف حجم المأزق: الصين لا تزال اللاعب الأكبر، والرئيس شي جين بينغ أظهر استعداداً لاستخدام المعادن كورقة مساومة للضغط على واشنطن، خصوصاً بعد فرض ترامب رسوماً جمركية واسعة، لترد بكين بضوابط على التصدير.
تلك الخطوة أجبرت واشنطن على التراجع التكتيكي، عبر اتفاق هدنة لمدة عام، لكنها هدنة هشة سبق أن انهارت نسخها السابقة قبل اكتمالها.
ما يجعل المعادن النادرة أولوية قصوى هو طبيعتها الاستراتيجية؛ فهي في صلب الصناعات الدفاعية، من تصنيع الصواريخ والمقاتلات إلى المغناطيسات فائقة القوة، مروراً بتكنولوجيا الطاقة المتقدمة.
وكما تقول غريسلين باسكاران، مديرة برنامج أمن المعادن الأساسية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن المعادن أصبحت “أقوى أداة مالية في السياسة الخارجية”، وهي عبارة تلخص انتقال هذا الملف من الهامش الاقتصادي إلى مركز الأمن القومي.
في مواجهة الخطر القادم من الشرق، فتحت واشنطن بوابات جديدة في آسيا الوسطى وصولاً إلى إفريقيا.
وقّع ترامب سلسلة اتفاقيات خلال جولته الآسيوية، قبل لقائه شي، مستعرضاً استثمارات ضخمة في الشركات الناشئة المتخصصة بالمعادن، ومؤسساً لشراكات جديدة مع دول تملك مخزوناً واسعاً من الموارد، مثل كازاخستان التي أعلنت اكتشافات مهمة في هذا المجال.
حتى الأرجنتين دخلت المعادلة، عبر مقترح أميركي يقوم على تبادل المعادن مقابل تخفيف الديون، في إشارة إلى أن واشنطن مستعدة لتوظيف كامل أدواتها المالية والدبلوماسية لضمان حصولها على ما تحتاجه.
ولم يتوقف السباق عند آسيا وأميركا اللاتينية؛ امتد إلى القارة الإفريقية، حيث تواجه الولايات المتحدة تحدياً دبلوماسياً معقداً في نزاعات إقليمية، من رواندا إلى الكونغو الديمقراطية، حيث تلعب المعادن دوراً أساسياً في الحسابات الجيوسياسية.
مصادر مطلعة أكدت أن إدارة ترامب تسعى لدمج قضية المعادن في محادثات السلام، بحثاً عن فرص جديدة للشركات الأميركية، في وقت تواصل فيه الصين تعزيز نفوذها في القارة.
الصين، من جهتها، لا تزال اللاعب المهيمن على ثمانية من أصل تسعة معادن تُشكّل انقطاع إمداداتها تهديداً مباشراً للاقتصاد الأميركي.
مثال ذلك معدن “السماريوم” المستخدم في صناعة مغناطيسات الطائرات والصواريخ، وهو مجال تسيطر فيه بكين على كل مراحل الإنتاج، من التعدين إلى التصنيع.
لذلك كثفت واشنطن جهودها لدعم منجم المعادن الأرضية النادرة الوحيد على أراضيها، وبدأت التعاون مع حلفائها، خصوصاً أستراليا، لفتح مسارات جديدة تقلل الاعتماد على الصين.
في خلفية هذه التحركات، نجد سباقاً عالمياً على ثروات المستقبل، حيث تسعى واشنطن إلى إعادة تشكيل الخريطة الجيو اقتصادية للعالم، من خلال توزيع نقاط النفوذ المعدنية.
وفي المقابل، تظهر الصين أكثر ثقة بقدرتها على استخدام المعادن كورقة ضغط، في ظل استفادتها من عقود من الاستثمار طويل الأمد في التعدين والتصنيع.
وبينما يحاول ترامب تعزيز حظوظ بلاده على هذا المسار، يبدو واضحاً أن أزمة المعادن لم تعد مجرد ملف اقتصادي، بل تحوّلت إلى ساحة تنافس شرس تُرسم عبرها موازين القوة في القرن الحادي والعشرين.




