آراءثقافة
أخر الأخبار

التفكير الذي يكتب التاريخ

هكذا كان محمد البوعزيزي. شابٌ يبيع الخضار، يحمل همّ يومه يبحث عن رزقٍ نظيف في وطنٍ ضاق بأحلامه. أُهين، فاختار أن يحتج، لا بالهروب، بل بالفعل الصادم الذي أشعل سؤالًا وجوديًا: لماذا يُهان الإنسان؟

عبدالله فضول

في حياة الإنسان، لا شيء يرافقه مثل التفكير، هو جوهرنا  الصامت الذي يتسلل إلينا ومنا كل لحظة، نتذكر أن الانسان كما يقال حيوان مفكر.

فليس هو رفاهية ذهنية، بل ضرورة وجودية، تتفاوت في عمقها، وتتباين في أثرها، لكنها لا تغيب.

فبين من يُفكر ليعيش، ومن يُفكر ليغيّر تتحدد المسارات، وتُصنع الفوارق التي لا تُرى، لكنها تكتب التاريخ.

غالبًا ما يبدأ التفكير من مراجعة داخلية، من تأمل في الذات وما يحيط بها.وينتقل بين مايعرفه الإنسان  وما يخشاه،و بين ما يريده وما يتجنّبه.

وقد يكون حوارًا داخليًا، أو يُلقى على الآخرين بحثًا عن رأي أو مشاركة.ليس دائمًا منظما أو منطقيا بل

  قد يكون فوضويًا، مترددًا، لكنه يظل فعلًا إنسانيًا جوهريًا لا ينفصل عن وجوده.

ومع ذلك، لا ينتج كل تفكير معرفة أو فنًا أو نظرية.

فالأغلبية تمارس نوعًا من التفكير العملي، الذي ينصب على تفاصيل الحياة اليومية:

الأسرة، العمل، الزوجة، الأبناء، المستقبل….

تفكيرٌ يهدف إلى اتخاذ قرار، أوحل مشكلة، أو الحفاظ على التوازن في سياق الحياة.

وهو ضروري، لكنه يظل محدودًا في أثره، لا يُحدث تحولًا حضاريًا، ولا يُخلّد في ذاكرة التاريخ.

أما التفكير العميق، فهو ما يغوص في المعاني، في البنى، في الأسئلة الكبرى.هو ماينتج الأفكار، ويعيد

تشكيل المفاهيم، ويُسهم في تطور المجتمعات. ويمارسه أولئك الذين لا يرضون بالجاهز، من مفكرين وفلاسفة وعلماء ومبدعين، حين يطرحون الأسئلة التي لا تُطرح، ويعيدون النظر في ما يُعتبر بديهيًا.

طبعا، للتاريخ مكره ورؤاه ،فهو لايحفظ إلا مايهزه من الأعماق، ولا يسجل إلا ما يتجاوز اللحظة ويترك أثرًا في الوعي الجمعي.

لا يحتفي بمن اشترى سيارة أو رتّب بيته أو سهر ليله، بل بمن طرح سؤالًا غيّر المفاهيم، أو قدّم فعلًا زعزع السائد، أو أشعل شرارة التغيير.

ومع ذلك، لا يمكن فصل االنوعين تمامًا. فكثيرًا ما يبدأ التفكير العميق من لحظة بسيطة، أو من موقفٍ عابر، أومن تجربةٍ شخصية.

رجلٌ بسيط يفكر في لقمة العيش، في كرامته، في يومه. تفكيرٌ لا يتجاوز حدود الواقع، لكنه حين يصطدم بجدار الظلم، يتحول إلى احتجاج، وإلى تعبير، أو إلى رفض.

هكذا كان محمد البوعزيزي. شابٌ يبيع الخضار، يحمل  همّ يومه يبحث عن رزقٍ نظيف في وطنٍ ضاق بأحلامه.أُهين، فاختار أن يحتج، لا بالهروب، بل بالفعل الصادم الذي أشعل سؤالًا وجوديًا: لماذا يُهان الإنسان؟

ومن تلك اللحظة، تحوّل الفعل الفردي إلى شرارة جماعية، وتحوّل التفكير البسيط إلى قضية حضارية أطلقت موجة من الثورات والمراجعات، وأعادت تشكيل الوعي الجمعي في أكثر من بلد.

هذا المثال يبيّن أن التفكير البسيط، رغم محدوديته، قد يكون مدخلًا لتحولٍ عميق،حين يُلتقط في لحظته المناسبةويُعاد توجيهه نحو سؤالٍ أكبر، سؤالٍ لا يخص الفرد وحده، بل يخص المجتمع، والكرامة، والمصير.

وهنا تتضح الصورة: التفكير العميق هو ما يُعيد تشكيل العالم والتاريخ لا ما يُدير تفاصيل حياتنا اليومية.

فالتفكير البسيط، مهما تكرر وتعدد، يظل محصورًا في دائرة الفرد وحاجاته، بينما التفكير المركّب هو ما يتجاوز اللحظة  ويعيد رسم حدود الممكن، ويفتح مسارات جديدة في الوعي، في التاريخ، وفي المصير.

وإن كانت بعض التحولات قد تبدأ من موقف بسيط، فإنها لا تكتسب معناها إلا حين تُلتقط بعينٍ مفكرة، وتُعاد صياغتها في سياقٍ أوسع، حيث لا يُكتفى بالنجاة، بل يُسعى إلى التغيير.

فالتاريخ لا يُكتب بمن فكّر كيف يعيش، بل بمن فكّر كيف يجب أن يُعاد بناء الحياة.

 * كاتب وقاص للقصة القصيرة جدا

https://anbaaexpress.ma/9oa8i

تعليق واحد

  1. موضوع قيم جدا يلامس جوانب عدة فنية ، فكرية وفلسفية أعجبني للغاية و صاحبه يستحق كل التنويه والتشجيع لأنه يقدم طابقا فنيا وفكريا و فلسفية بريشته الإبداعية وفقكم الله واصل العمل أخي و أستاذي الفاضل عبدالله فضول ، ففي جعبتكم الشيء الكثير من الإبداع .. تحيات و محبات ❤️❤️❤️👏👏👏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى