آراءسياسة
أخر الأخبار

لافروف بين ذاكرة الحرب الباردة وواقعية الحكم الذاتي.. حين تعيد موسكو ترتيب خرائطها في الصحراء “تحليل”

روسيا التي كانت تغذي أسطورة “تصفية الاستعمار” في خطابها الإفريقي، وجدت نفسها فجأة أمام منطق جديد ، لا استعمار في الصحراء، بل استقرار، ولا انفصال في الجنوب، بل مشروع وطني يكتمل داخل وحدة الدولة المغربية..

لم يكن تصريح سيرغي لافروف حدثا دبلوماسيا عابرا، بل لحظة انكشاف عميق في وعي السياسة الروسية وهي تخلع رداء الحياد البارد وتدخل زمن المصالح الدافئة، زمن ما بعد الأيديولوجيا.

فحين قال وزير خارجية موسكو إن “مقترح الحكم الذاتي المغربي يمكن أن يكون جزءاً من الحل”، بدا الأمر كأنه تصدع في جدار جليدي ظل لعقود يحجب الرؤية، وكأن التاريخ نفسه قرر أن يراجع خريطته التي رسمت في زمن الحرب الباردة.

روسيا التي كانت تغذي أسطورة “تصفية الاستعمار” في خطابها الإفريقي، وجدت نفسها فجأة أمام منطق جديد، لا استعمار في الصحراء، بل استقرار، ولا انفصال في الجنوب، بل مشروع وطني يكتمل داخل وحدة الدولة المغربية.

التحول الروسي لم يكن اعتباطيا، بل نتيجة لعاصفة أوكرانية قلبت ميزان العالم، ودفعت موسكو إلى البحث عن توازن جديد خارج ضوضاء الغرب، في إفريقيا تحديدا، حيث يتحرك المغرب كقوة هادئة تملك بوصلتها الخاصة، وتعرف كيف تزاوج بين الثابت الجيوسياسي والمتحول الاقتصادي.

من هنا، يصبح تصريح لافروف اعترافا ضمنيا بنهاية زمن الشعارات الانفصالية التي حملتها الجزائر نصف قرن، ونهاية وهم “تقرير المصير” بمعناه الانشطاري الذي استهلك حتى التكلس.

الجزائر التي لم تدرك بعد أن العالم تغيّر، ما تزال أسيرة لغة الخنادق، تتحدث عن “المستعمر” في زمن الأقمار الصناعية، وتحتفل بالجمود كما لو كان انتصاراً.

إنها متاهة النظام العسكري الذي يعيش على ذاكرة الثورة وريع الغاز، فيما تتحرك الرباط بمنطق الدولة الحديثة التي تخاطب العالم بلغة التنمية لا بلاغة العداء.

أما الإعلام الجزائري، فقد ارتبك أمام الموقف الروسي كما يرتبك من يفقد ظله فجأة. حاول أن يبرر، أن يُنكر، أن يؤول، لكنه في النهاية وجد نفسه أمام حقيقة لا تدار بالحناجر، أن موسكو لم تعد تعتبر البوليساريو قضية مبدئية، بل ورقة خاسرة في سوق المصالح الدولية.

لم يعد الكرملين يراهن على الشعارات، بل على من يصنع الاستقرار، والمغرب يصنعه بالعمل لا بالضجيج. منذ 2007، حين قدم المغرب مبادرته للحكم الذاتي، تغيّر ميزان الخطاب الأممي.

تحوّل المقترح إلى مرجعية صلبة في قرارات مجلس الأمن، وصار ينظر إليه بوصفه الحل الوحيد الجاد والواقعي.

لم يعد العالم يتحدث عن استفتاء، بل عن توافق، عن نموذجٍ ديمقراطي يتيح لسكان الصحراء إدارة شؤونهم في ظل السيادة المغربية، ضمن هندسة سياسية متقدمة تتكامل فيها السلطة المحلية مع الوحدة الوطنية.

في المقابل، ظلت الجزائر تنسحب من طاولة الحوار كلما اقتربت الحقيقة منها، متخفية خلف لقب “الطرف المراقب” وهي في الواقع الطرف الذي يصنع الأزمة ثم يتظاهر بأنه ضحيتها.

لقد أصبحت الجزائر مشكلة القضية، لا محاميها. في المقابل، يواصل المغرب بناء شرعيته على الأرض.. موانئ تمتد نحو الأطلسي، طرق تربط الشمال بالجنوب، مشاريع للطاقة الشمسية والريحية، واستثمارات دولية في العيون والداخلة، فيما ترتفع القنصليات كأعلام سيادية في قلب الجنوب، شاهدة على أن الدبلوماسية لا تقاس بعدد الخطب، بل بعدد الأعلام التي تختار أن تكون إلى جانبك.

أما روسيا، التي تدرك أن زمن الشعارات انتهى، فقد اختارت أن تنحاز إلى ما هو ممكن، لا إلى ما هو عقيم. إنها براغماتية ما بعد الحرب، براغماتية تدرك أن من يملك الاستقرار يملك المستقبل.

ومن هذه الزاوية بالذات، يصبح المغرب شريكا طبيعيا في معادلة التوازن الجديد، لا خصماً في معادلة قديمة ماتت ببطء. العالم اليوم لا يبحث عن “تقرير مصير”، بل عن “تقرير استقرار”، والمغرب يقدمه في صورة حكم ذاتي جامع بين السيادة والكرامة والتنمية.

إن تصريح لافروف، في جوهره، ليس مجرد موقف روسي، بل إشارة رمزية إلى أن العالم بدأ يستيقظ من سباته الأيديولوجي، وأن خريطة الوعي الدولي تتبدل بهدوء نحو ما كان المغرب يراه منذ البداية.. أن الصحراء ليست مشكلة جغرافية، بل اختبار وعي سياسي، وأن الحل ليس في الانفصال، بل في الوحدة التي تبنى على العدالة والواقعية.

هكذا يصبح الحكم الذاتي ليس مجرد مقترح مغربي، بل فلسفة دولةٍ تؤمن بأن المستقبل لا يدار بالشعارات، بل بالعقل الذي يحول  الجغرافيا إلى مشروع حياة.

https://anbaaexpress.ma/9kpd0

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى