آراءثقافة
أخر الأخبار

جنون الحقيقة وسؤال الإيبوخي

الأولويات التي يطرحها التجريبيون الجدد كأوجست كونت وريشنباخ، هي سلاليم متخيّلة، هم فيها مدينون للوعي القصدي، رغم انشدادها إلى التجربة الحسية، وهي متجاوزة هيغليا وفينومينولوجيا..

يصعب إصدار حكم، قيمة على الوضعية الفلسفية في الغرب، دون استيعاب المجال التردّدي لتاريخ الميتافيزقا الحديثة، ومحاكمة المنعطفات الفلسفية كأحداث.

ومثلما كنا دائما نأمل منهم الكثير من التجرد والإنصاف في فهم تاريخ أفكارنا، علينا أن نفعل ذلك من منطلق أنّ التفكير في الفكر لن يكون منتجا إلاّ إذا بات قصدا عالميا.

إنه تاريخ يفرض استيعابية وتركيبا وليس مجالا للانتقاء، لأنه مسار تكاملي. نستطيع القبض على بذور التفكير الفينومينولوجي عند ديكارت نفسه، على الرغم من الموقف الوضعاني الصُّلب تجاه الكوجيطو.

فالشّك العام كمنهج هو الأرضية التي يستلهم منها الإيبوخي روح التعليق، مهما بدا التعليق في نظر هوسرل ناقدا ديكارت أكثر حيادا، بخلاف الكوجيطو، والإقتصاد الذي تتيحه حالقة الأكامي، يساعد على الاختزال.

التاريخ هنا لا يُقرأ طوليا، بل يجب قراءته عرضيا أيضا. لا أحد ينسخ الآخر، بل التاريخ هنا مساحة مزدوجة: من ناحية تضعك أمام مسار تخارج الأفكار، وفي الوقت نفسه تتيح لك السفر العقلي داخل تلك الأزمنة، وهذا يتطلّب قدرا من النّباهة الترانسندتالية.

الأولويات التي يطرحها التجريبيون الجدد كأوجست كونت وريشنباخ، هي سلاليم متخيّلة، هم فيها مدينون للوعي القصدي، رغم انشدادها إلى التجربة الحسية، وهي متجاوزة هيغليا وفينومينولوجيا، لأنّها تتجاهل فعالية الوعي في استقبال الظاهرات وتدبيرها في الحقل الفينومينولوجي، وكيف يتحقق الانكشاف، وما هي مهام العقل في انكشاف الواقع؟ ذلك لأنّ الظاهرة في مثولها أمام الوعي، تتطلب منه مهاما جديدة، وتلك هي مهمّته التاريخية.

لا أحد منذ هيغل أنكر الواقع عنوة، بل في تاريخ الفلسفة لا أحد كان يملك حقّا نسيان الحسّ. كان هناك فقط نوع من القصدية.

وعلى هذا الأساس، هناك في إعلان هوسرل عن مفارقة الهمّ الأوربي حتى اليوم بين التقدم العلمي والوعي. لا أحد عُني بتحقيق الوعي وآليات اشتغاله على الانكشاف الظاهراتي.

وعليه، إن كنا سندرك الخبرة الشعورية بتلك الظاهرات التي تبدو في حالة تأجيل مستمر، فالوعي مراتب، سواء في منظور القُصود أو في درجة الانكشاف، وهذا في تقديري يفتح مجالا للاختلاف.

تجاهل الخبرة الشعورية قد يصبح كارثة إنسانية، لعلها هي النزعة التي هيمنت على العلم مطلع القرن العشرين، لكن المنقذ كان ولا يزال يكمن في محاولة القبض على الترانسندتالي في امتثال الوعي للظواهر العارضة.

فالانكشاف ليس مُعطى. بل كم تأخّرت الفلسفة الغربية حتى تكتشف فكرة الظهور والتجلي تماما. إنّ الظاهرة لا تعرض نفسها إلاّ بظهور خافت لا يكتمل إلاّ بخبرة الشعور، فالظاهرة ليست هي فقط المحسوس المادي، المحسوس هو لامسه الوعي، بل لنقل أنّ الوعي هو إحساس.

الوعي عند هوسرل هو في نهاية المطاف وعي بشيء. والشيء يتعدّى المحسوس المادي، فالظاهرة تصبح موضوعا لما هو ترانسندنتالي، ما هو شعوري خالص، مجال الوعي أوسع.

كيف نتمثّل الظاهرات؟ كيف يتحقق الوعي بها؟ سؤال الكيف مهمّ في المقاربة الفينومينولوجية. وهي تستحق أن تتسع لنقرأ بها التاريخ ونقارب بها كل فعاليات الإنسان، بما في ذلك الحرب.

ففي فينومينولوجيا الحرب يمكننا البحث في مدارك الوعي بالظاهرة الحربية، وكيف تتجلّى الحرب في وعي المحاربين، أي معنى فينومينولوجي لتجربة الشعور بالإنتصار أو الهزيمة؟ كما في الجغرافيا، وجب التفكير في كيف نتمثّل وعينا الجغرافي؟ كما في التاريخ، كيف نتمثله في وعينا، وهكذا دواليك.

ما قيمة الوعي إذا لم يكن وعيا بشيء؟

استوقفني إعلاميان في الطريق، طالبين تصريحا يتضمن سؤالا حول ما هو الشيء الذي يجب أن يتغير في قانون الأسرة؟ الجواب في دقيقة؟ فكرة دقيقة أثارت عندي موقفا فينومينولوجيا حول الزمن كظاهرة؟ طبيعة وعي بالمشكلة في قانون الأسرة لا تسمح بزمن فيزيائي عاجز عن استيعاب موضوعي للجواب الكامل. وفضلت أن يكون جوابي كالتالي:

إنّ طبيعة معضلتنا التاريخية والاجتماعية، لا يمكن مقاربتها بالطريقة التي يتغذى عليها البوليميك السياسوي.

موضوع قانون الأسرة يتعلق بطبيعة وعينا، واعتبار شروطنا الاجتماعية والثقافية والسياسية، إنّها ظاهرة تفترض تحليلا لمدارك الوعي الجمعي بها.

ولإنجاز النقاش العمومي، أحاول في هذا الاستصراح تأطيرا تربويا فينومينولوجيا لما ينبغي أن يكون عليه النقاش العمومي، ألا وهو التمهيد باستراتيجيا تطهير الوعي من عوالق العصبية، شجاعة لإنجاز شرط الإيبوخي، وأهم شيء في هذه المحاولة هو تنظيف الخطاب من الضوضاء غير الجاد، الذي يسعى لتغيير التاريخ المتخيّل بقوانين غير تعاقدية، بل بغُلب إمبريالي يقوم على مُغالطة التهويل والتهوين، اللّعب على الفصّ الأيمن وقطع الألياف العصبية الرابطة بينه ونظيره الأيسر عبر الضغط الميديائي المكثف، والصبيب الصوري الذي يغرق الخيال مجاوزا المنفعة الحدّية.

تقنية سحرية تُخاتل المشهد بمفاهيم مُهرّبة من نسقها الذي يمنحها معنى وأيضا يٌحصِّنها من التقليد في السوق السوداء.

ما فعله نيتشه وهوسرل وهيدغر ودريدا ونظراؤهم، هو محاولة تنزيل استراتيجيا الإيبوخي، تقويضا للميتافيزقا الغربية.

لكنهم لا زالوا لم يوسعوا البِيكار ليشمل العهد الهيليني، برواسبه ومنحنياته. لا زالت الشجاعة تخون التيار العام، حيث الجهل بالآخر هو جهل به فينومينولوجيا، العجز عن الوصف خارج المؤثّرات المعلنة وغير المعلنة، الوفاء العميق للهيلينية.

إنّ الموقف النقدي يجب أن لا يسلّم بالمنعطف الفينومينولوجي نفسه، حيث تنتصب تحديات أخرى أمام هذا الموقف الثوري. فالانتقال من الموقف الطبيعي إلى الموقف الفينومينولوجي عبر آلية الاختزال لا زالت غير مكتملة.

في عملية الإيبوخي، هل ثمة ضامن بأن لا نخضع لمخاتلة الانتقاء، أي الإجهاز على بعض المستبقات، وإخفاء بعضها ولو أطيافا تتغلغل في التجويف الباطني للموقف الفينومينولوجي نفسه؟ هل هذا الصمت الفينومينولوجي لحظة الاختزال الماهوي، لا تعتوره لحظة وفاء لتجارب الشعور الفينومينولوجية نفسها؟ هل نحن إزاء ما يجب أن يكون عليه الموقف الفينومينولوجي أم ما هو عليه فعلا؟

في النهاية، إنّنا كلّما اقتربنا من الواقع المحسوس، أدركنا أنّه هو هذا الماثل أمام وعينا. لا شيء يمرّ من دون وعي.

فما هي ضريبة هذا العُروض؟ إنّ الكائن متأرج بين أن يفي للغباء وبين أن يتيه في مدارك الوعي، لعل ذلك هو تاريخه الذي لم يكتمل بعد. إنها عملية تدبير مفتوح لهذه الحيرة، حيث الحقيقة تسكن بين الـ(C’est faux) وبين الـ(C’est fou)، في القول الثاني تصبح الفلسفة (folisophie) وليس (philosophie) كما في حيرة لويس فان ديلفت.

لا شيء يتحقق من دون جنون: جنون الحقيقة، التي مهما أخطأناها، فقدرنا أن نسلك نحوها كدحا متعاليا سيزيفيا، لعلنا في لحظة ما ننجح في وضع الصخرة في علٍ.

يتيح لنا الموقف الفينومينولوجي الوقوف عند ما من شأنه تقويض صلابة الموقف الوضعاني، كما يتيح تعقيل العقلانية والمثالية، والدفع باتجاه معانقة آتية لا ريب فيها، بين معقول الخيال ومتخيل العقل في منعطف تاريخي جدير بشدّ الألياف العصبية بين الفصين، وفتح الطريق السيار بينهما من دون ضريبة المرور.

https://anbaaexpress.ma/9iavl

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى