كانت الحرب بين تونس وإيطاليا (عفوا روما وقرطاج) هي نموذج الحروب العالمية في العهد القديم. تم في الجولة الأولى منها هزيمة قرطاجنة في البحر وتدمير اسطولها البحري، وفي الجولة الثانية من صراع ديناصورات العهد القديم، نقلت قرطاجة الحرب الى الأرض البرية، بعد أن خسرتها في البحر، وخف تدفق الذهب عليها من أمريكا، بفعل تقلص أسطولها البحري، الذي كان يمخر عباب المحيطات، فقامت باحتلال اسبانيا لتجعل منها قرطاجنة الجديدة، ومازالت هناك مدن في اسبانيا تحمل الاسماء الفينيقية حتى اليوم (راجع قصة ماجلان وكيف تخلص ماجلان من الموظف الملكي الذي يحمل اسم قرطاجة ـ خوان دي كارتاجينا ـ على الساحل الأجرد عند أرض البيتاجونيا جنوب الارجنتين الحالية، بعد قيامه بالعصيان ضد ماجلان).
وكانت الجولة الثانية تجري على الأرض الايطالية يقودها رجل من أعظم الرجالات العسكريين الذين أنجبهم التاريخ العسكري، هو (هانيبال) الذي طوَّر تكتيكات مذهلة، سحق بها أعظم الجيوش الرومانية وقتل خيرة شباب روما، وأنزل على رؤوسهم دبابات العصر القديم: الفيلة، التي حملها من أفريقيا وعبر بها جبال الألب وثلوجها، في حركة عسكرية مطوقة مذهلة، يعقد التحالفات مع أعداء روما فوق أرض (الجزمة) الايطالية، واستمر يخرب في الأرض الرومانية لفترة 18 سنة، ليستقر عند كابوا جنوب إيطاليا الحالية، في حملة لم تتعافى منها الأرض الايطالية حتى يومنا هذا.
بموجب شهادة المؤرخ البريطاني جون آرنولد توينبي دون أن تستطيع روما أن تواجهه عسكرياً بسبب التكتيكات العسكرية الرائعة التي كان يستخدمها ويسحق بها الفيالق الرومانية. وكانت الجولة الثالثة على الأرض الأفريقية عندما حفظت روما دروس (هانيبال) وطبقتها ضده، وتمت هزيمة هانيبال المُرَّة عند أسوار مدينته في معركة (زاما ZAMA) عام 146 قبل الميلاد، لتنتهي قرطاجنة لاحقاً ذبحاً وترويعاً على يد الجنود الرومان الذين استباحوا المدينة وذبحوا نصف مليون من السكان، في تعداد تلك الأيام، مايعادل عشرة ملايين من سكان المدن هذه الأيام، فدولة قرطاجنة كانت ممثلة في المدينة العالمية قرطاجة.
هذا المشهد التاريخي الدرامي هو الذي حرك مشاعر الخطرالعميقة والرعب المروع عند (تشرشل) لما رأى زحف الطوابير الهتلرية ونسور الجو (LUFTWAFFE) السلاح الجوي الألماني، في بداية عملية (أسد البحر) التي لم تنفذ، والتي كانت تستهدف احتلال الجزر البريطانية، فوقف يذكِّر الشعب البريطاني بتلك اللحظات التاريخية من دمار الحضارات، فاستشهد بقرطاجنة التي لم تستسلم، وتم ذبحها على يد الجنود الرومان. روما ومثلها أمريكا اليوم كانت فاتحا لايرحم.
وكلفت هذه الحروب نهاية الامبراطوريتين معاً، فعبرة التاريخ تقود القاتل والمقتول في صراع من هذا النوع يقود الى مصير متشابه من الفناء، الأول المقتول مسفوك الدم فاقد الحياة، والثاني القاتل فاقد الضمير ملوث المشاعر في موت ثقافي نفسي، قد استهلك موارده المادية والروحية، واستنفد آخر عصارة حيوية من كيانه، فتخشب عبر التاريخ، على شكل بدون روح وتحنط بمظهر هيكل أجوف بدون حركة.
مايهمنا من هذه القصة التاريخية أن قرطاجنة دُمِّرت تماماً، ولكن المؤرخ (بلوتارخ) الذي كان يعسُّ بين أنقاض قرطاجنة (تونس الحالية) وقع على هذا المخطوط، ومما جاء فيه كلام واضح حول رحلات الفينيقيين الى القارة الأمريكية، التي أمدتهم بالذهب، حيث اعتمدت قرطاجة بدءً من بداية القرن الثالث قبل الميلاد صك الذهب المتدفق عليها من الأمريكيتين، من خلال عمليات المقايضة التي كان يقوم بها أسطولها البحري، كعملة خاصة بها، من أجل صرف رواتب الكمية الضخمة من الجيوش المرتزقة، الذين كانت تستأجرهم في مشاريعها العسكرية.
هذه المعلومة أثارت ضجة في عهد الملكة اليزابيث عام 1558 م، في جو محموم من الاستكشافات التي تهب وتدب على ساق وقدم، والصراع العسكري بين القوى الأوربية على أشده، ففاحت رائحة الذهب من ثنايا المخطوط المترجم، الذي كانت تعتمده قرطاجنة في صراع البقاء.
تحريات العالم الأثري (بيري فل BARRY FELL)
هذا الموضوع حرَّك العالم (بيري فل) في ضوء تطور إمكانات المقارنة التاريخية، وعلم الجيولوجيا والآثار، وعلم معرفة العملات المعدنية، وتقنية الكربون 14، الذي يعطي بدقة فائقة عمر أي أثر حضاري تقع عليه البحوث، لتعطي عمره الحضاري في مدى ستين ألف سنة، وكذلك تقنيات (الارغون ـ بوتاسيوم) الذي يمكن أن يفيد عن عمر أي شيء على وجه الأرض ولو بلغ مليارات السنوات، ومن هذه التقنية الأخيرة أمكن تحديد عمر الأرض أنها 4,6 مليار سنة، وأن بدايات الحياة الأولى أصبح لها 3,8 مليار سنة، وبداية الانفجار البيولوجي حوالي 530 مليون سنة، وبدايات الانسان الأولى ترجع الى حوالي خمسة ملايين من السنين.
كان التحري الأثري بين الأرض الأمريكية والعالم القديم أكثر من مثير، لأنه تبين أن حركة القدوم الى أمريكا لم تنقطع، قام بها العرب وغيرهم من أمم شتى، من الرومان والنرويجيين والأغريق والفينيقيين، بسبب قصر مسافة الاطلنطي النسبية، فاختراق البحر لمدة شهر واحد يمكن أن يقود الى يابسة جديدة. وكانت الآثار التي كشفت في كل الأرض الأمريكية لاتكف عن الظهور، في شهادة واضحة الى أن بحر الظلمات لم يكن مظلماً تماماً، فروح المغامرة عند البشر ليس لها حدود.