آراءثقافة

أفضل طريقة لدخول عالم الأساطير

وفي التاريخ مات الأبطال والأشقياء والعيارون والحرافيش من أجل افكارهم بـأكثر من مات من الصادقين

أفضل طريقة لدخول عالم الأساطير، أن يختفي صاحبها إما على حبل المشنقة كما حصل مع (سيد قطب)، أو غابات بوليفيا مثل (تشي غيفارا)، أو كهوف (تورا بورا) في جبال افغانستان كما فعل (ابن لادن) واذا كانت السيارة تحتاج إلى وقود حقيقي لتمشي فإن كتلة الجماهير العمياء تتحرك ضد قوانين الفيزياء، ولا تحتاج في حركتها الى وقود، ويمكن أن تزحف بوقود وهمي من الأسطورة، كما حصل مع حملة صليبية كاملة من الصبيان، فتخطفهم الناس بأشد من النسور للجيف.

الوهم لا يعني الحقيقة. فهذه حقيقة اولى، ولكن هذه الحقيقة وهم. فلم تتحرك خيالات الناس ومشاعرهم كما فعلت الاوهام بهم.

الحقيقة مزعجة ومؤلمة، اما الاساطير فهي لذيذة تخدر الشعوب على الخيالات الى اجل غير مسمى. وعندما كان القيصر (نيقولا الثاني) يمر بين الفرق العسكرية في الحرب العالمية الاولى، كان الجنود يخرون له ساجدين، ومنهم من كان يبكي لمرآه، والقس بجانبه يرش الجنود بالماء المقدسة، والمبخرة بين يديه يبارك نحر القرابين البشرية لإله الحرب (مردوخ) ليستقبلهم (انوبيس) في العالم السفلي في نهر (شارون) الكئيب كما تروي الاساطير.

ومن العجيب أن الملايين كانوا يموتون مثل خراف المسالخ وهم عن عبادة القيصر لا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار بحمده لا يفترون. فلما ايقظهم لينين من هذا الحلم الخبيث مزقوا العائلة المالكة شر ممزق، فقتلوا بددا ولم يبق منهم احد. وجعلناهم احاديث فبئساً للقوم الظالمين.

ليس ابغض على النفس من الانتقاد. ولا تسكر النفس بخمر كالثناء. وليس هناك طريقة اكثر ضمانة لحصانة الافكار ودخولها عالم (المقدسات) بيسر مثل موت صاحبها مجاهدا في سبيلها، فتتحرر من الخطأ، وتصبح متعالية مقدسة لا يتجرأ شخص ان يلمسها بالنقد والمراجعة.

وما زلت اتذكر (عبد الحليم ابو شقة) صاحب موسوعة (تحرير المرأة في عصر الرسالة) وهو يتحدث عن (معالم في الطريق) لسيد قطب ومقدار الجرعة السمية من الافكار فيه، ولكن الناس يومها لم ينتبهوا لخطورة ما ورد فيه.

وعندما تحدث عن (القاعدة الصلبة الواعية) لم يدر بخلد احد ان تولد هذه القاعدة في جبال الهندوكوش، بعد الارتطام في اقصى المعمورة بأبراج نيويورك، وبعد ان كان الصراع مع (الجاهلية المحلية) بمحاولة قلب أنظمة الحكم بالقوة المسلحة إنتقل مدى الصراع الى مدار الكرة الارضية في شرخ كوني، كما تتصدع القارات جيولوجيا حسب شروخ الصفائح التكتونية.

وفي يوم تحدث سيء الذكر (بوش) عن حلف الشيطان باتجاه (الشرق) ليقفز في مواجهته من يقابله من عندنا حلف الشر باتجاه (الغرب). ويسود التوتر والمجانين ساحة الاخبار. انها ايام حزينة وسوداء ونكس في التطور الانساني بعد ان تحول العالم الى مصحة عقلية كبرى.

وعندما يتحدث وزير العدل الامريكي عن المسيح الذي جاء يفدي نفسه عن البشر فيقتل نفسه، وليس أن تكون تعاليمه قتل الآخرين، فليس امام الانبياء إلا اعلان البراءة من مذهب الدم والقتل في اي اتجاه. وعندما فسر (سيد قطب) الآية من سورة الحج «وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا اذا تمنى القى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته».

تناول فكرة خطيرة عن «مصلحة الدعوة» وان الدعاة الى الله قد يقعون في (شرك) هذه الكلمة فيحولون مصلحة الدعوة الى صنم يتعبده الدعاة الى الله. وما حذر منه سيد قطب وقع فيه أتباعه. وكتابات سيد قطب اليوم اصبحت (محصنة) ضد اي نقد او مراجعة مرتين: (أولا): لأنه انهى حياته على حبل المشنقة و(ثانيا): لأنه كتب في ظلال (القرآن).. فـ (الشهادة) تعني (صحة الافكار)، والعيش في ظلال القرآن يعني القرآن. فهو (يدور مع الحق كيف دار).

وكل من ينتقده صعلوك يناطح السحب. ولكن كلا الفكرتين تشكل خطأ فادحا، فلا موت صاحبها يعطي مصداقية لصحة الفكرة، ولا شرح آيات القرآن يحول الشرح الى آيات.

وفي التاريخ مات الأبطال والأشقياء والعيارون والحرافيش من أجل افكارهم بـأكثر من مات من الصادقين، ومات الشيوعي والاسلامي، ومات المؤمن والكافر، والتافهون أكثر من المفكرين، والمتحمسون أكثر من الواعين.

وهناك من لبث في السجن عشرين سنة فخرج بين الجنون والموت أقرب الى انسان الكهوف، فلا يقارن نضج المفكر بعدد سنوات حبسه، أو صحة أفكاره بطريقة موته. وشدة المعاناة لفكرة لا تحكي اكثر من شدة تعلق صاحبها بها، والطفل عندما يبكي على الشوكولاته لا يعني انها مفيدة لأسنانه، ونحن نعلم من التجارب العلمية ان الظن لا يغني من الحق شيئا، وأن الحماس للشيء لا يعني صحة الفكرة، وان النتائج هي التي تحكم على صدق الافكار.

وقل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى. ومن ناحية ثانية فإن الاشتغال على القرآن جيد اذا تم توظيف (العلوم المساعدة) لادراكه مثل الدخول الى منجم بانارة جيدة، او صيدلية فخمة بعلم صيدلاني كاف، أو قراءة وثيقة هيروغليفية باحاطة فيلولوجية، وهو الذي اشار اليه (حديث ابن لبيد) أن القرآن سيبقى بين أيدي المسلمين ولن ينتفعوا مما فيه بشيء، تماما كما حصل لليهود والنصارى، وذلك في زمان (ذهاب العلم).

جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث يوما فذكر ذهاب العلم فاعترض زياد بن لبيد وقال يارسول الله كيق يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن وسوف نقريء أبناءنا القرآن وهم سيقرؤون أبناءهم القرآن؟ قال صلى الله عليه وسلم : ثكلتك أمك يا ابن لبيد أو ليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والأنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء.

ومن جاء حديث آخر ينص أننا سنتبع من قبلنا تماما حتى لو دخل أحدهم جحر ضب لفعلناه وهو حديث صحيح فيسأل الصحابي أهم اليهود والنصارى فيكون الجواب نعم ومن سيكون؟ وهكذا فأصحاب كل دين وفكرة وملة ونحلة ينطبق عليهم نفس القانون فلا يخرجون!

وأذكر يوما انني ناقشت أحدهم ان كتاب الظلال يمكن إختصاره من 6000 صفحة الى 600 بسبب كثرة المرادفات والانشاء اللفظي فضلا عن اعادة النظر في المفاهيم الخطيرة التي ربطها بالقرآن خاصة مع تنقيحه الجديد للاجزاء الأحد عشر الأولى، حيث سكب بين الآيات مفاهيمه الجديدة عن الجاهلية والقتال المسلح وتكوين القاعدة الصلبة الواعية.

ولكن كلامي لم يلق سوى حساسية مفرطة ودفاع مستميت فكيف يمكن مناقشة افكاره وهو كلام (الشهيد)؟ ومشكلة المتحيز أو الحزبي أنه أعمى بدون عصا او نظارة سميكة او كلب يسوقه. وأي بحث معه هي حالة حرب أسلحتها الكلمات، وتكتيكها التبرير والدفاع، وطريقها واحد بدون رجعة، وشكلها لسان يتكلم عن الاله بدون اذنين للسمع.

إن هذه الطفولة الفكرية إنتبه لها لينين فكتب عن (الطفولة اليسارية)، وقام مالك بن نبي بتحليل المراحل العقلية التي يمر بها الانسان انها ثلاث: عالم الاشياء ـ عالم الاشخاص ـ عالم الافكار، فالطفل لا يفرق في ايامه الاولى بين ثدي امه والرضاعة.

وبعد فترة يميز بين أمه وأبيه. وأخيرا يدخل عالم الافكار فيميز ان الذي يحبه ليس بالضرورة صادقا وأمينا. وهذه المراحل الثلاث تدخل فيها الأمة اثناء تطورها ونضجها التاريخي. فتظن في البداية أن القوة هي في امتلاك السلاح. فاذا ترقت الى الوثنية عبدت القيادات السياسية المضللة وصفقت لها إلى الأبد واطاعت السادة والكبراء، فأضلوها السبيل ومشت بالملايين في جنازة زعيم فاشل.

ولا تصل الى عالم الافكار إلا بظهور مؤشرات إرتفاع قدرة النقد الذاتي، وحينما إختلط الامر على الصحابة عندما رفع معاوية المصاحف على رؤوس الرماح في معركة صفين، قال علي كرم الله وجهه كلمته المشهورة «ويلك لا تعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف اهله».

وامكانية الفصل والتمييز بين (الشخص) و(الفكرة) يجعلنا نتعامل مع الشخص ليس بكراهية وحب، مثل المريض فلا نكرهه، بل نكره (المرض) الذي يحرمه من النشاط، وافكار سيد قطب وآثارها البعيدة ليس هناك من قام حتى اليوم بوضعها على مشرحة النقد الذاتي، لأنه (الشهيد) ولذا فأفكاره متعالية لا يقاربها الخطأ او يلامسها النقد.

ومن أعجب الامور ان الناس حينما تطرح عليهم فكرة ان البشر غير معصومين ونحن لا نتبنى فكرة الكنيسة عن عصمة البابا هزوا رؤوسهم بالموافقة، ولكن نقاش أفكار بعض الناس يثبت أنهم معصومون.

وهذه الآلية اشار اليها (ابن تيمية) أن الناس لا يختلفون على القواعد النظرية ولكنهم يختلفون أشد الاختلاف عند التطبيق. ومن هذه الافكار تلك التي طرحها سيد قطب عن (الحضارة) حينما شطب بجرة قلم كل الانتاج الانساني، حينما اعتبر أن (المجتمع الاسلامي هو وحده المجتمع المتحضر والمجتمعات الجاهلية بكل صورها المتعددة مجتمعات متخلفة).

وهكذا يمكن ان نمشي على رؤوسنا دفعة واحدة بدون أن نشعر بالدوار فنعتبر ان المانيا واليابان متخلفتان، وعندما تعرض لفكرة مالك بن نبي المحورية عن الحضارة إنها جهد انساني حدث منذ عشرة آلاف سنة، وقامت بموجبه عشرات الحضارات، وكانت مزيجا من الابداع المادي والثقافي كما يعرفها (ديورانت): «نسيج متشابك ومعقد وهش من العلاقات الانسانية يتسم بالجهد في صنعه والسهولة في تدميره».

اعتبر ان هذه الفكرة هي غبش في الرؤية، وأنه كان كذلك قبل أن يقنص الحقيقة النهائية، وأن مالك بن نبي (يكتب بالفرنسية)، وأن إضافة كلمة (حضارة) على المجتمع الإسلامي هي من لغو الكلام. وهي نفس الاشكالية التي واجهت الثورة الايرانية هل تسمي نفسها جمهورية؟ وبذلك يتم إلغاء كل الجهد الانساني ومغامرات العقل الانساني في أسطر قليلة.

وخطر هذا الفكر انه يعرض صاحبه للانفكاك من المركبة الحضارية العالمية في فضاء موحش خال إلا من الاشعاعات المميتة. بقي أن نعرف من قطب أين نجد المجتمع الاسلامي؟ هل كانت ايام (المستكفي بالله) الذي سملت عيناه وسجن حتى مات، أم (الراضي بالله) الذي حكم يوما واحدا، أم السلطان (محمد خان الثالث) العثماني الذي افتتح حكمه بخنق 19 اخا له بفتوى من شيخ الاسلام قبل أن يدفن أباه مراد الثالث فيدفن العشرين في مقبرة جماعية.

أو فاتح القسطنطينية الذي قتل أخاه الرضيع مع تولي السلطة. أم كان أيام السلطان (خوش قدم) من المماليك الذين خلع منهم 23 وقتل خمسة وسجن أربعة حتى الموت وخنق واحدا وشنق واحدا وإختفى واحد وكان أعقلهم (جقمق) الذي إستقال بعد أن تحول العرش إلى كرسي الاعدام.

https://anbaaexpress.ma/939rv

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى