في السياسة، لا تكون الهزائم مجرد أرقام تسجل في جداول الانتخابات، بل إشارات عميقة إلى تصدعات أوسع في البنية الرمزية للسلطة، وهذا بالضبط ما كشفت عنه الانتخابات الإقليمية المبكرة في إكستريمادورا يوم 21 دجنبر، حيث لم يتلق الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني صفعة انتخابية عابرة، بل خسر ما يقارب 15 في المئة من رصيده مقارنة بانتخابات ماي 2023، في تراجع لا يمكن قراءته إلا باعتباره لحظة انكشاف سياسي لرئاسة بيدرو سانشيز، وانعكاسا لتآكل سرديته التي حكم بها إسبانيا منذ يونيو 2018، إذ لم تعد لغة “الاستقرار التقدمي” قادرة على إخفاء التعب البنيوي الذي أصاب الحزب والدولة معا ولا على احتواء غضب اجتماعي يتغذى من أزمات متراكمة، اقتصادية وقيمية ومؤسساتية.
هذه الهزيمة لم تترك سانشيز وحيدا في قصر مونكلوا، بل جعلته محاصرًا من كل الجهات، بدءًا من حلفائه اليساريين في حزب سومار وبوديموس الذين انتقلوا بسرعة من موقع الدفاع إلى موقع المحاسبة، مطالبين إياه بالاعتراف بالواقع بدل الاستمرار في إنكاره، وباقتراح حلول سياسية لا ترقيعية لأزمة لم تعد حزبية فقط بل تمس صورة اليسار الإسباني ككل، يسار استنفد خطابه دون أن يجد بديلًا مقنعا وزاد من هشاشته سقوط اثنين من أقرب المقربين إلى رئيس الحكومة، سانتوس سيردان وخوسيه أبالوس، في قضايا فساد تعيد إلى الواجهة سؤال الأخلاق السياسية، وتقوض ما تبقى من رأسمال رمزي لحزب لطالما قدم نفسه كحامل لقيم النزاهة والديمقراطية الاجتماعية.
غير أن الخطر الأكبر لا يأتي من داخل اليسار وحده، بل من شركاء اضطراريين في الأغلبية البرلمانية، وعلى رأسهم القوميون الكتالونيون في حزب جونتس، الذين قرؤوا هزيمة إكستريمادورا بوصفها علامة ضعف بنيوي لا ظرفي، واستثمروها لتشديد الخناق على الحكومة، ملوحين بإسقاطها عبر دعم اقتراح بحجب الثقة أو تعطيل تصويتات حاسمة، وهو ما يكفي في الحالتين لإفقاد السلطة التنفيذية أغلبيتها الهشة، ودفع البلاد نحو سيناريو عدم استقرار سياسي مفتوح.
في هذا السياق، لا يبدو الحزب الشعبي، بقيادة ألبرتو نونيز فيخو، أقل شراسة في استثمار اللحظة، إذ تحولت مطالبته بانتخابات عامة مبكرة إلى لازمة سياسية أسبوعية داخل البرلمان، مؤطرة بخطاب يُقدّم إكستريمادورا كبداية نهاية مرحلة كاملة من “التراجع الوطني”، حتى وإن لم تمنحه صناديق الاقتراع أغلبية صريحة، لكن المفارقة أن الرابح الحقيقي من كل هذا ليس الاشتراكيين ولا الشعبيين، بل حزب فوكس اليميني المتطرف، الذي خرج من انتخابات 21 دجنبر بنسبة 17 في المئة و11 مقعدًا، واضعا نفسه في موقع صانع الملوك، ومجبرا الحزب الشعبي على التكيف مع أجندته وخطابه، في مشهد يعيد إلى الأذهان التحولات الزاحفة لليمين المتطرف داخل الديمقراطيات الأوروبية حين يفشل الوسط في تقديم أجوبة مقنعة.
هذا الصعود لا يظل حبيس الجغرافيا الإقليمية، بل يفتح أفقا وطنيا مقلقا، خصوصا مع اقتراب مواعيد انتخابية حاسمة في أراغون وكاستيا وليون والأندلس خلال 2026، وهي مناطق يمكن أن تتحول إلى مختبرات لتطبيع خطاب فوكس وممارساته، تمهيدا لنقله إلى قلب السلطة المركزية.
هنا، يتجاوز التحليل البعد الإسباني الداخلي ليطال الجوار المباشر، وعلى رأسه المغرب، لأن صعود فوكس ليس مجرد تغيير حزبي بل انتقال في منطق الدولة تجاه ملفات حساسة، من قضية الصحراء إلى إدارة الهجرة، ومن الصادرات الفلاحية إلى النزاعات الرمزية حول سبتة ومليلية والجزر المتوسطية، مرورًا بملف الحدود البحرية قبالة جزر الكناري، وصول إلى العلاقة المعقدة بين الرباط والبرلمان الأوروبي، وهي ملفات يدرك فوكس جيدا كيف يحولها إلى أدوات تعبئة قومية قائمة على الاستفزاز والتأزيم بدل الدبلوماسية والتوازن.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال وضع الجالية المغربية في إسبانيا، التي قد تجد نفسها في قلب معادلة إقصائية إذا ما انتقل خطاب فوكس من الهامش إلى مركز القرار، خاصة في ظل سوابق عنف عنصري كما حدث في مورسيا في يوليوز الماضي، وهي أحداث ليست معزولة بل مؤشرات على ما يحدث حين يشرعن الكراهية داخل المجال السياسي.
هكذا تبدو إكستريمادورا أقل من مجرد إقليم، وأكثر من مجرد انتخابات، إنها مرآة لمرحلة انتقالية يعيشها النظام السياسي الإسباني، حيث يتآكل اليسار دون أن ينهار، ويتقدم اليمين التقليدي دون أن يهيمن، بينما يزحف اليمين المتطرف مستفيدا من الفراغ الأخلاقي والرمزي، وفي هذا المشهد، لا يعود السؤال هل سيغادر سانشيز مونكلوا، بل أي إسبانيا ستخرج من هذا المخاض، وأي ثمن سيدفعه الداخل والخارج معا إذا ما تحول الغضب إلى سياسة، والاحتجاج إلى أيديولوجيا.




