أثار تصريح البرلماني أحمد التويزي، رئيس فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب، موجة واسعة من الجدل بعد حديثه عن “شركات تطحن الورق وتقدمه كدقيق مدعّم للفقراء”.
عبارة قصيرة، لكنها أشعلت الرأي العام كعود ثقاب في هشيم الذاكرة السياسية، واستدعت سؤالًا أعمق من مجرد التوضيح الذي قدّمه لاحقًا :هل يحق للسياسي أن يتحدث بالمجاز في مكان جائعٍ للحقيقة.
لم يكن المغزى من عبارة “طحن الورق”، بحسب توضيح البرلماني، سوى إشارة مجازية إلى التلاعب في الوثائق والفواتير المتعلقة بالدقيق المدعم. لكنه نسي، ربما، أن الكلمة في الفضاء العمومي لا تبقى على نية قائلها.
فحين تصدر من فم برلماني، تُصبح خطابًا عامًا، يلتقطه المواطن لا بوصفه استعارة بل بوصفه اتهاما صريحًا، لأنّ لغة البرلمان ليست ساحة مربد شعري بل منصة للمساءلة والمسؤولية، ولأنّ المجاز حين يتسلل إلى القاعة التشريعية، يتحول سريعا إلى تأويل سياسي.
اللغة السياسية، في أصلها، لغة تدبير وتوضيح وليست لغة غموض. حين يستعمل البرلماني تعبيرًا مجازيًا مثل “طحن الورق”، فإنّه يغامر بخلط المستويات بين الخطاب الفني والبلاغي والخطاب المؤسسي الذي يُفترض فيه أن يكون دقيقًا وواضحًا ومباشرًا.
فالكلمة هنا ليست ترفًا لغويًا بقدر ما هي أداة تشريع وسيف رقابة. إنّها تدخل إلى بيوت الناس على اختلاف حظهم من التعلم وتؤثر في ثقتهم بالمؤسسات. لذلك، فإنّ أي انزلاق في المعنى يتحوّل إلى أزمة في المصداقية.
لقد حاول التويزي أن يُخفف من وقع العبارة بالتوضيح اللاحق، مؤكدًا أنّ “طحن الورق” كان مجازًا دارجًا في اللهجة المغربية، بمعنى “تزوير الوثائق” مثلما نقول “خلط الأوراق” مثلا.
غير أنّ ما لم ينتبه إليه هو أنّ الخطاب العام لا يحتمل تعدّد التأويلات، لأنّه موجّه إلى فئات متفاوتة في الثقافة والمعرفة واللغة. فالمواطن البسيط يسمع العبارة ويأخذها على ظاهرها، والإعلام يلتقطها كاتهام موثّق، ووسائل التواصل الاجتماعي تُحوّلها إلى موجة من السخرية أو الغضب، فيضيع المعنى الأصلي وسط الضجيج.
في المجال العمومي، كل مجازٍ ناقص تفسيرٍ يتحوّل إلى حقيقة مشوّهة، والبرلماني، حين يتحدث باسم الشعب، عليه أن يعي أنّ لغته لم تعد ملكه بل أمانة عامة، وأنّ كل استعارة غير مضبوطة قد تُشعل أزمة سياسية أو اجتماعية، لأنّها تمسّ الثقة في المؤسسات وفي العدالة الاجتماعية نفسها.
تتجاوز القضية هنا الجدل حول “العبارة” إلى ما هو أعمق، إلى أزمة في العلاقة بين الخطاب السياسي والحقيقة، فحين يشتكي برلماني من “التلاعب في الدقيق المدعم” فهو يلمّح إلى اختلالات بنيوية في منظومة الدعم العمومي، لكنه في المقابل يختزل القضية في استعارة لاذعة تُلهي الناس عن جوهر المشكل.
النتيجة أن يتحول النقاش من مراقبة الدعم وجودة الدقيق إلى تحليل لغوي لعبارة “طحن الورق” فينحرف النقاش من جوهر الفساد إلى شكل الكلام، وكأننا أمام مشهد من مسرح العبث حيث تضيع الحقيقة بين مجازٍ وتوضيحٍ وردّ فعلٍ متسرّع.
في السياق المغربي، يُشكّل الدعم العمومي للمواد الأساسية أحد أكثر الملفات حساسية، لأنه مرتبط مباشرة بكرامة الفقراء.
ومن هنا فإنّ أي تصريح غير منضبط لغويًا يُمكن أن يُخلّ بتوازن الثقة بين الدولة والمجتمع، ليس المطلوب من البرلماني أن يكون شاعرًا بقدر ما يطلب منه أن يكون أمينًا في الكلمة، لأنّ الكلمة في السياسة ليست زينة بل عقد أخلاقي. كي لا ننتقل من طحن الورق إلى طحن الحقيقة!
ربما آن الأوان لإعادة التفكير في ما يمكن تسميته ب”بلاغة المسؤولية” في الخطاب السياسي المغربي. ليست البلاغة هنا فنّ التزيين أو الغموض، بل قدرة اللغة على القول الصادق والواضح في القضايا التي تمسّ حياة الناس.
فالسياسي ليس كاتبًا روائيًا يستطيع أن يختبئ خلف الاستعارة، بل هو متكلم رسمي باسـم الشعب كممثل للأمة.
وكل كلمة منه يمكن أن تُحدث أثرًا في الأسواق أو في وجدان المواطن أو في صورة المؤسسة التي يمثلها.. إلا إذا كان يفهم التمثيل بمعنى خلق الفرجة!
إنّ ما حدث في قضية “طحن الورق” ليس زلة لسان فحسب بل عرضٌ لمرضٍ لغويٍّ أعمق أصاب الخطاب العام في بلادنا.. تسيّب الكلمة وفقدان الحسّ بالمسؤولية المعنوية للكلام.. فاللغة، حين تُستعمل بلا وعي، يمكن أن “تطحن” الحقيقة ذاتها، وتُربك الثقة في المؤسسات، وتحوّل النقاش السياسي إلى فرجة لغوية بلا مضمون.
لا شك أنّ التويزي حاول في بيانه أن يُعيد الأمور إلى نصابها، موضحًا أن هدفه كان التنبيه إلى مراقبة جودة الدقيق المدعم ومراجعة منظومة الدعم. وهي قضايا مشروعة وضرورية. لكنّ التوضيح لا يُلغي أثر العبارة الأولى، لأنّ الأثر في الوعي الجمعي لا يُمحى بسهولة.
فالكلمة، حين تخرج إلى العلن، تصبح كالسهم لا يعود إلى قوسه.
من هنا، فإنّ الأزمة ليست في النية بل في بنية التواصل السياسي التي لا تزال تعاني من غياب التكوين الخطابي لدى عدد من ممثلي الأمة، ومن غياب إدراكٍ حقيقي بأنّ اللغة السياسية هي شكل من أشكال السلطة، ومَن يملك سلطة الكلمة، يملك القدرة على بناء الثقة أو تقويضها.
إنّ تصريحًا واحدًا مثل “طحن الورق” كافٍ ليكشف هشاشة العلاقة بين اللغة والمصداقية داخل الخطاب السياسي المغربي. والمطلوب اليوم ليس فقط اعتذارًا لغويًا أو توضيحًا إعلاميًا، بل نقاشًا أعمق حول أخلاقيات الخطاب البرلماني.
فالسياسي مطالب بأن يُخاطب الشعب بلغة تُقنع العقول وتطمئن القلوب، لا بلغة تُربك التأويل وتفتح الباب أمام السخرية أو الشك.
حين يتكلم البرلماني، لا يطحن الورق ولا الدقيق، بل يطحن -من حيث لا يدري – الثقة والمعنى نفسه، والمعنى، في السياسة كما في الحياة، هو أثمن ما يمكن أن نملكه.




