ابراهيم ماين
تنبثق الحياة – كل الحياة – من الجسد، فهو الكائن الحي الذي تتفجر فيه ينابيع الوعي و الفكر و الحركة، إنه أصل ينبع منه كل شكل غامض لأشكال الفكر و أشكال الوعي التي اتخذتها الفلسفات المحددة لها بما أنها تمثل نهاية ما يسميه نيتشه على لسان زرادشت في قوله “الجسد عقلك الكبير و هذا العقل الصغير الذي نسميه وعيا ليس سوى أداة صغيرة و لعبة في يد عقلك الكبير يمكن خلق أفكارك و أحاسيسك كائن أكثر نفوذا حكيم مجهول يسكنك، إنه جسدك”.
إن قول نيتشه هذا ينطوي على منافحة قوية ضد الاتجاهات الفلسفية “الروحية” التي تقدس النفس و تبخس الجسد، فتربط الأولى بعوالم ميتافيزيقية يعتقد أنها تتميز بالحكمة و الثبات و الصفاء، و تربط الثاني بعوالم أرضية يعتقد أنها تنضح بألوان الشهوة و الغريزة و الرغبة، على أساس أن هذا الأخير يتصدى للفكر و يمنع الإنسان من تحقيق الكمال، هذا الأمل التعيس الذي كان يحذوه منذ وجوده على هذه الأرض، فالكمال عنده لا يمكن أن يتحقق إلا إذا طوعنا الجسد و أخضعناه للروح التي لا تفنى، لا الجسد الذي يذبل، فوجود الإنسان في الجسد فهم بطريقة ميتافيزيقية و ثيولوجية، لا بطريقة أنطولوجية فينومينولوجية.
فمن الناحية الأولى –أي الميتافيزيقية – يعتبر الجسد حاجزا أمامنا لبلوغ الحقيقة المطلقة و المثلى، لأنه و ببساطة مادة، و المادة تطالها الأعراض و التغيرات، و كل متغير متقلب، و كل متقلب لا يبقى على حاله لا يؤسس عليه و لا يتخذ مسلكا و لا يوثق به، فلا يصلح و الحالة هذه أن نؤسس معرفة يقينية على جسد واهن هش متراخي و مترهل يؤول بالطبيعة إلى الموت و الهلاك، و هذه مشكلة أفلاطون مع الجسد، فضلا أن هذه المشكلة تختلط بما هو ثيولوجي، على اعتبار أن أفلاطون لم يسلم من تأثير الديانات و لم تسلم الديانات من تأثيره.
فقد انتعش فكره في العصور الوسطى حيث سيادة الدين أكثر من انتعاشه في اليونان حيث سيادة المنطق، و هذا مما يثير الاستغراب، و هذا الثيولوجي في فكره يتمثل في اعتقاده بأن الجسد كتلة لهب مشتعلة من الشهوات و الغرائز و النزوات و الرغبات التي لا تنتهي، إنه – بحسبه – قبر النفس، لأنها مدفونة فيه طوال الحياة، إنها أشبه بالتابوت، فالإنسان الذي يحبس نفسه في سجن الجسد و لا يحاول الانعتاق من أغلال شهواته و رغباته يبقى أسيرا و عبيدا لها، الشيء الذي يؤدي إلى خنق العقل و وأد ملكة التفكير و الانزلاق في مهاوي الضلال و الوهم و السراب، حيث تنعدم الحقيقة، و حيث لا يوجد سبيل آخر للتسنم بالعقل إلى عالم المثل، و في هذا القول نصيب من الصحة، فلو اطلعنا على السيرة الذاتية لأعظم الشخصيات في التاريخ، خصوصا الفلاسفة، سنجد أن أغلبهم قد كبح جماح جسده، و اهتموا أيما اهتمام بمعرفة الذات، لكن لم يهتموا بالانهمام بالذات كما تحدث في ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
و الحق أن تصور أفلاطون هذا في محاورة “فيدون” حول الجسد تعتريه الكثير من المغالطات و تعتوره العديد من التناقضات و المفارقات، لعل أبرزها هو أنه إذا كان الدين يحث الإنسان عن الانسحاب من عالم الشهوات و الرغبات و التخلص منها ما أمكن ذلك، و الانصراف من دائرة الجسد و ما يطلبه منا، و الانكباب بالمقابل على العبادة و الطاعة، و الانحشار في دائرة التنسك و التزهد و التبتل، فإن الفلسفة أيضا تنص على تقويض ملذات الجسد لكي يتسنى لنا أن نتفرغ للتفكير العقلي لإنتاج معرفة منطقية و مطلقة.
فكيف تجرأت الفلسفة على القطع بصفة نهائية مع الجسد كما الدين مع العلم بأنها منفصلة تماما في جوهرها عن التصورات الدينية؟ لماذا لم تنتبه إلى الجسد و لم يحز نصيبا من اهتمامها؟