آراءسياسة
أخر الأخبار

زواج السلطة بالمال في اقتصادياتنا العربية “تحليل”

هذه النخب الاقتصادية التي وصلت للحكم اليوم مباشرة أو عبر وكلاء لم تستطع تقديم إجابات شافية للشعوب العربية، ومنها الشعب المغربي عن أسباب استمرار متلازمة التخلف الاقتصادي وانتشار الفقر والغلاء وضعف المؤشرات الاجتماعية

الدكتور بيبوط ددي

مر تنظيم الاقتصاد العربي منذ القرن الماضي وإلى يومنا هذا من مراحل امتازت كل منها بميزات خاصة جعلته انعكاسا حقيقيا لمرحلة الحكم التي يخضع لها و ينتظم بنواميسها، فقد تمخض الزخم الثوري للشعوب العربية منذ الأربعينات وبداية الخمسينات عن موجة من الاستقلالات السياسية المنقوصة في أغلبها، وحظي استعمار الأمس بمجموعة من الامتيازات جعلته يخرج من الباب ويعود من النافذة.

واستمرت الأقليات الدينية والعرقية في الشرق العربي، من شركس ويونانيين و وأرمن ويهود و أوربيين وقلة من العائلات العربية التجارية في السيطرة على المشاريع التجارية والإنتاجية كاختصاص حصري لها، بينما ركز المواطن العربي على الوظائف البيروقراطية  في الجيش والإدارة والأوقاف.

وقد مكن هذا الوضع الملوك والأمراء العرب من طبقة اقتصادية داعمة لعروشهم لا تتمتع بعصبية قبلية أو مناطقية تهدد الحكم وتحافظ على التوازنات العامة لحظات الأزمة، و ظل المواطن العربي في هذا الصدد بمعزل عن الخضوع للنفوذ الاقتصادي لهذه القوى بشكل مباشر. 

كما تمتع بمجال مهم للمناورة معها لحظات الشد والجذب، وكان من حسنات هذا الوضع توفر هذه الطبقة الاقتصادية  والتجارية، إن صح القول على وعي اقتصادي تراكمي بورجوازي مستنير، لعب دورا مهما في خلق بنية صناعية وتجارية وطنية بعيد الاستقلال تسير بخطى حثيثة لتجد لها مكانا في تقسيم العمل الدولي بفعل التراكم الفكري والمالي لديها.

لكن الأمر أصبح مختلفا بحلول مرحلة المد القومي منذ منتصف الخمسينات والستينات إلى حدود بداية السبعينات حيث انبلجت قوى فكرية بعثية وناصرية جابت بأفكارها الوطن العربي شرقا وغربا، ونتجت عنها ثورات أوبالأحرى انقلابات على أوضاع سياسية واقتصادية واثنية وعرقية سابقة، والتبشير بأوضاع أخرى لا تختلف إلا في المسميات.

اتجه الاهتمام على إثرها في البداية إلى إحداث تحولات في السياسة الخارجية، ونسج تحالفات تنسجم مع التوجه الجديد، والعمل على تغيير معالم الوضع الداخلي بشكل يخدم الأوضاع المستحدثة، في إذعان كامل لثقافة الحزب الواحد الثوري (الاتحاد الاشتراكي  أو البعث)  صاحب النظرة الثاقبة، وبدأ تسفيه الخصوم والتنكيل بهم والسيطرة على كل مقدرات الشعوب العربية.

ومن دلائل ذلك، أن كل الانقلابات العسكرية العربية أقدمت على إصلاح فلاحي استهدف مكافئة مكونات الانقلاب العريضة، ودعم قاعدتهم الاجتماعية وأصهارهم كما حدث في مصر والعراق والجزائر واليمن وسوريا، حيث أخذت طبقة صغار الفلاحين التي ينتمي إليها هؤلاء الضباط الأحرار الأراضي الزراعية. 

وتحولت إلى ملاكين كبار بفعل دعم الحزب الجديد وأجهزة الدولة العسكرية، حيث انطلقت عملية واسعة لتأميم الاقتصاد العربي، وطردت الأقليات صاحبة الامتياز التاريخي، ونتج عن هذه المرحلة فترة من الانتعاش الصوري الناتج عن إغلاق الحدود أمام المنافسة الأجنبية، وظل الاقتصاد العربي متخلفا وذا إنتاجية رديئة و منكفئا على نفسه. 

وأصبحت مصانع الدولة مثالا للمحسوبية والزبونية حيث امتلأت الشركات الوطنية بالعمال الذين لا يشتغلون، ويحصلون على الرواتب حسب الانتماء لحزب الدولة من عدمه وكذا حظوتهم العشائرية والجينيالوجية حتى.  

وفي المغرب ظلت قلة من العائلات الموروثة من زمن الحمايات القنصلية، وما أعقبها من امتيازات استعمارية مقدمة لبعض الباشوات الكبار، هي الوجه العام للبورجوازية المغربية إلى حدود منتصف الخمسينات، تحتكر أنشطة البيع والشراء ومناصب الإدارة والشرطة والجيش، حيث فرضت طوقا محكما على مصالحها حتى وإن تناقضت مع الحقوق الوطنية. 

وقد اصطدمت بوحشية مع رجال الحركة الوطنية طيلة نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات نظير ذلك، وكانت الأداة والمعول الذي استخدم لضرب الاختيارات الوطنية لحكومة عبد الله إبراهيم في بناء اقتصاد وطني قوي ومستقل عن عبث المصالح الفرنسية.

 وقد أدى اسقاط حكومة عبد الله إبراهيم والتراجع عن كل اختياراتها الإصلاحية إلى عودة المتحكمين القدامى إلى مسرح الأحداث، مستفيدين من جرعات ريعية كبرى تتمثل في الحصول على امتيازات صناعية وتجارية وأراضي فلاحية شاسعة تخلى عنها الاستعمار الرسمي والاستعمار الخاص للدولة تباعا منذ خروجه وعلى مراحل امتدت إلى بداية السبعينيات.

وقد مكن المنطق الاقتصادي الجديد القديم القائل بضرورة قرب النخبة الاقتصادية من مربع الحكم من صناعة بورجوازية طفيلية تتماهى في أنشطتها مع القطاع العام لتمتص مقدراته التي لم تكن في جوهرها إلا إمكانات وحقوق شعب بأكمله، وبدت غير قادرة على منافسة نظيراتها الأجنبية التي قطعت أشواطا طويلة في استقلالها المالي عن الدول وفي صياغة مشاريعها التكنولوجية المتميزة التي بوأت دولها مراتب متقدمة على الصعيد العالمي.

ومع حلول الثمانينيات، بدأت الكارثة في الظهور حيث استفاق الشعوب العربية وبقية المجتمعات الشيوعية على تخلف اقتصادي كبير وعلى ركود قل نظيره منذ مدة طويلة، حيث توالى سقوط الأنظمة الشيوعية تباعا ودقت المؤسسات الدولية ناقوس الخطر من انفجار اجتماعي كبير في الأقطار العربية، وبرزت برامج التقويم الهيكلي والخوصصة التي تم الانقلاب عليها سابقا، بعد وصول الثوار القوميين لسدة الحكم.

في الحقيقة، كانت الكعكة من نصيب الحزب أو العشيرة الحاكمة التي أممت الاقتصاد سابقا، لتلتهمه بعد عقدين أو ثلاثة في أطار شركات خاصة. وكانت فاجعة الشعوب العربية كبرى مرة أخرى، لأن مؤسساته بيعت بدريهمات ودنانير وجنيهات معدودة  تشجيعا للبورجوازيين الاشتراكيين الجدد الذين ليس لهم لا فكر تجاري اقتصادي ولا خصال بورجوازية تعمل على تنمية الرأسمال من القلة إلى الوفرة.

استمرت الشعوب العربية في تحمل تبعات هاته الأوضاع، حيث لاتزال هذه الفئات الطفيلية تكلف أوطاننا الكثير على مستوى الاستغلال والتهرب الضريبي وطلب الدعم المتواصل من خزائن الدول الدولة وابتزازها بشكل ممنهج بذرائع ومسميات متعددة، وحث الدول على إغلاق الحدود تجنبا للمنافسة.

واحتقار العمال وتهميشهم والنيل من حقوقهم، والتملص من استحقاقات زيادة أجورهم والاستحواذ على أراضي الدولة بذريعة الاستثمار وإقامة مشاريع اقتصادية لامتصاص البطالة والاستفادة جراء ذلك من قروض ميسرة أو مساعدات مالية ومادية مباشرة قد تصل إلى حدود تمويل تكلفة المشاريع بشكل كامل من الدولة.

 لكن لم يتحقق أي من تلك الأهداف المتوخاة من تلك الإجراءات، حيث تصير هذه الأراضي ملكا عقاريا لهم ولأبنائهم بعد فترات زمنية معينة، حيث تصبح الخسارة مزدوجة، خسارة الملك الخاص للدولة وهدر المال العام واستمرار ارتفاع البطالة وهدر الزمن التنموي.

وقد اهتدى هؤلاء المحظوظون الجدد اليوم لطرق أخرى أكثر فظاعة للاستمرار في الركون للمالية العمومية، يتمثل في الاستفادة من مشاريع دعم استيراد بعض المواد والمنتجات الغذائية كاللحوم والزيوت والعسل والمواشي وغير ذلك من المواد التي كان المغرب يدعم انتاجها عقودا عديدة بمخططات انتقلت من دعم المشاريع الزراعية وتشجيع منح القروض للمنتجين إلى المخطط الأخضر القائم على تقديم دعم مباشر مجاني إلى الجيل الأخضر.

ولا تقتصر تلك الإجراءات على القطاع الفلاحي فحسب، بل تعدها الى انتهاج مخططات أخرى في قطاع  الصيد البحري والقطاع الصناعي وغيره، والتي خرجت في مجملها عن المبررات التي أحدثت من أجلها لأول وهلة، فأضحت هدرا مباشرا للمالية العمومية يستفيد منه المقربون ويقصى منه المغضوب عليهم.

والنتيجة تدمير المقاولة الوطنية المنتجة وضرب تنافسيتها، وخلق المزيد من الطفيليين غير القادرين على تحمل مسؤولياتهم في مجال التشغيل وتنمية فائض القيمة الوطني وزيادة الإنتاج الاقتصادي.

 وجدير بالذكر، أن هذا التحول الملفت من دعم الإنتاج إلى دعم الاستيراد للحفاظ على استقرار الأسعار، لم يكن ليقع لولا وصول زمرة من الاقتصاديين إلى سدة التدبير الحكومي، حيث أضحوا هم الخصم والحكم في تضارب مصالح واضح وضوح الشمس في كبد السماء، حيث يقترحون المشاريع ويمنحونها ما يريدون من الدعم ويقصون المنافسين الآخرين.

ويمكن القول ختاما، أن أي من هذه النخب الاقتصادية التي وصلت للحكم اليوم مباشرة أو عبر وكلاء لم تستطع تقديم إجابات شافية للشعوب العربية، ومنها الشعب المغربي عن أسباب استمرار متلازمة التخلف الاقتصادي وانتشار الفقر والغلاء وضعف المؤشرات الاجتماعية.

* باحث في التاريخ الحديث والمعاصر

https://anbaaexpress.ma/6gse5

تعليق واحد

  1. شكرا جزيلا أخي العزيز الدكتور دداي بيبوط كان جردا ودراسة مهمة ومختصرة تاريخية والنتيجة واضحة جدا لزواج السلطة بالمال وتغلغل الفكر البورجوازي المتوحش في الجسم العربي المريض اصلا والنتيجة كما نرى ونسمع ثقل المديونية وتوسع البطالة حتى النخاع وموت الاقتصاد والناتج المحلي وارتفاع مؤشر الاستيراد ……اتمنى من الأخ الكريم والدكتور المحترم المساهمة في بلورة حلول ناجعة لما نمر به من واقع مرير وشكرا جزيلا على الدراسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى