ثقافة
أخر الأخبار

قصة قصيرة.. رحلة إلى خزانات سيدي بوعثمان

كريم الحدادي

اعتاد أبي أن يأخذنا، في عطلة الربيع من كل عام،  إلى مدينة مغربية تاريخية، لا نعرفها. كان والدي أركيولوجيا[1]،  مهووسا باستكشاف المدن القديمة، المدفونة تحت التراب، والعناية بها.

لقد اتخذ من ذلك هواية، شاء الشغف أن تتحول إلى مهنة. كان مولعا بالتنقيب الأركيولوجي، معروفا بين زملائه الباحثين والصحفيين، الذين يأتون لاستجوابه في مكتبه، في الطابق العلوي من منزلنا؛ حيث ينغمس في القراءة ليل نهار. كان دائما يردد: “إن التاريخ هو مرآة الحاضر. وإنه من العيب ألا نعرف تاريخنا، وتاريخ مدننا وأجدادنا”.

كنا متحمسين في ذلك الصباح من أبريل، لخوض تجربة جديدة. تناولنا فطورنا بسرعة، عدا أخي الأصغر، الذي رفض الجلوس إلى مائدة الطعام فرحا؛ فاكتفى بتفاحة طازجة، التهمها بخفة كالسنجاب.

كانت أختي الصغرى حريصة على إعداد حقيبتها، كما يفعل أبي في كل مرة يخرج في مهمة أركيولوجية.

أذكر أنها وضعت في حقيبتها الصفراء عدسة مكبرة، مسطرة، نظارات شمسية، قبعة بيضاء وقفازات. كانت لمياء ذكية، فطنة[2]. كانت أمي تطلق عليها اسم “الأركيولوجية الصغيرة”.

كعادتي، حرصت على شحن بطارية آلة تصويري الرقمية، التي أهداها لي أبي في عيد ميلادي العاشر. كانت آلة التصوير هذه من صنع فرنسي، اشتراها أبي خلال زيارته لمعرض للآثار بمدينة “نيس”[3].

تبدو قديمة على نحو سيء، وكانت تثير ضحك زملائي في الفصل، الذين لا يكفون عن التقاط صور سيلفي بهواتفهم الذكية.

تعذر على أمي مرافقتنا هذه المرة. إذ كانت حاملا، تحمل في بطنها سنجابا آخرا خلق لها بعض المتاعب. عند الباب، ودعناها وركبنا السيارة. ما إن أخذ كل منا مكانه على المقعد، حتى بدأ أخي الأصغر في طرح أسئلته الفضولية: ” إلي أين ستأخذنا يا أبي هذه المرة؟”؛ “ما اسم هذه المدينة؟”؛ “بكم تبعد عن مراكش”؟

دأب أبي على إثارة تشويقنا ومفاجئتنا. كان يقول أنه يريد أن يعلمنا الصبر ويغرس في أنفسنا الفضول المعرفي. أتذكر أنه كان  دائما يستعرض جملة لـ”أينشتين”: “من لم يعد يستطيع الإحساس  بالدهشة أو المفاجأة ، فهو ميت-حي وقد عميت عيناه”[4].

في الكرسي الخلفي، كنا أنا ولمياء، نستمتع بالمناظر الطبيعية تارة ونلتقط صورا تارة أخرى، بينما يقفز السنجاب من مقعد إلى مقعد مخلفا ضجيجا مقبولا إلى حد ما. بقينا على هاته الحال إلى  أن ضغط أبي على مكابح السيارة، معلنا عن وصولنا.

كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، عندما توقفت السيارة. الجو معتدل، رائحة العشب والأزهار تفوح من كل جانب. أخرجت آلة تصويري، وأخذت في التقاط الصور.

بينما سحبت لمياء برشاقة حقيبتها، ووضعت نظاراتها الشمسية. أما أبي فأخرج مذكرة وقلما، وضع قبعته، ثم قال لنا باهتمام: “لا تبتعدوا عني كثيرا، فثمة حفر عميقة هنا، وهناك كلاب وزواحف سامة، يمكنها إيذاؤكم، خصوصا وأن معنا سنجابا مثير للفضول؛ لنتقدم في خط واحد، حتى نتجنب أية أضرار”.

بدا المكان شبه فارغ، بالكاد كنت أرى بعض المنازل المتناثرة هنا وهناك. يبدو المكان مهجورا. ثم أين هي المدينة التي جئنا إليها؟ كان على أخي الأصغر أن يعيد طرح سؤاله. لكنه بدى محبطا هو الآخر. صحيح أن هذا المكان بعيد عن ضوضاء المدينة، وأصوات المكابح، ورنين سيارات الإسعاف المضجر[5]. الجو نقي ومنعش.. لكن لم جاء بنا أبي إلى هنا؟ هل هي مجرد نزهة عادية إلى الطبيعة؟

تابعنا السير بحذر. بدأت حرارة الشمس في الارتفاع. كانت كافية لتشل قدرة السنجاب عن طرح أي سؤال إضافي. اقتربنا من الحفر التي نبهنا إلى وجودها أبي. في الواقع، لم تكن مجرد حفر، بل إنها تشبه بيوتا قديمة مهجورة.

تفوح منها رائحة كريهة. ربما كانت بيوتا عتيقة[6]، اتخذ منها السكان مطرحا للنفايات. كنت لأمتنع عن مرافقة أبي لو عرفت أنه سيأتي بنا إلى هكذا مكان؛ حتى إنني لم أستعمل آلة التصوير كما جرت العادة. هل ينفع أن نصور شيئا قبيحا؟

تكلمت لمياء أخيرا، هي التي التزمت الصمت طوال رحلتنا:

– هل هذا هو المكان الموعود يا أبي؟

– نعم، هذا هو المكان المقصود يا بنيتي. وهو غير بعيد عن مدينة “سيدي بوعثمان”، التي مررنا بها قبل قليل. يقول أبي.

– وما أهمية هذه الحفر المهجورة؟

– أولا، يجب أن تعرفوا أن لهذه الحفر اسما.. (قاطعته لمياء)

– وما اسمها؟

– اسمها خزانات سيدي بوعثمان. وعددها تسعة. يعود بناؤها إلى القرن الثاني عشر ميلادي. أي إبان العصر الموحدي. ويبلغ عمرها حوالي ثمانية قرون، أي حوالي ثمان مائة سنة.

كنت محبطا حين وصلنا إلى هذا المكان المنسي. كانت توقعاتي كبيرة؛ كنت أنتظر رؤية مكان جميل كـ”وليلي”[7]، “أغمات” “قصر البديع”[8]، أو “صومعة حسان”، وهي مآثر  سبق أن زرناها، واستمتعنا بذلك. لكن ما إن سمعت أبي يحكي عن تاريخ هذه الحفر، حتى نفضت بعض الغبار على وجهي، واقتربت منه مهرولا، حتى أستمع بإمعان إلى تتمة هذه القصة المشوقة. تابع أبي قائلا:

في ذلك العهد، الذي يختلف عن عصرنا، كان الناس يتنقلون على متن الخيول والدواب. كان يجدر بهم قطع مسافات طويلة، قد تمتد إلى أسبوع أو أكثر. لأجل ذلك، كان لابد لهم من محطات استراحة.

ومن شيد هذه الخزانات إذن؟ أضفت.

يعود تاريخها إلى العصور الوسطى. وقد أمر ببنائها السلطان “يعقوب المنصور الموحدي”، الذي عاش ما بين سنتي 1160 و 1199 ميلادية. تسمى هذه المحطة بـ”النزالة”. وكانت تكتسي أهمية قصوى في ذلك العهد، لكونها كانت إحدى المحطات الرئيسية التي اتخذها السلطان وجنوده محطة عبور واستراحة. وهي تربط مراكش، عاصمة الدولة الموحدية آنذاك، بفاس بشمال البلاد. كما كانت محطة مرور المسافرين والتجار المتوافدين من كل الجهات.

كانت الحرارة قد بلغت أشدها. نام أخي الأصغر بين ذراعي أبي. كان يجب أن نبحث عن ظل شجرة يقينا من ضربة شمس، تعكر صفوة رحلتنا التي بالكاد بدأت. لكن لا وجود لأشجار هنا. نزع أبي قبعته ووضعها على رأس السنجاب الصغير، ثم تابع حديثه.

كما تريان، فهذه الخزانات ذات شكل أسطواني. وهي فعلا كالبيوت. يمكن أن نسميها بيوت ماء. والغاية منها تكمن في تخزين المياه والاحتفاظ بها لأوقات الشدة والجفاف. نحن الآن في فصل الربيع، وها أنتما تعانيان من الحرارة، أليس كذلك؟ فما بالكما بفصل الصيف؟

نعم، ترد لمياء، لكن كيف كان الناس يملؤونها بالماء؟ ثم ألا يتسرب الماء إلى الأرض فتمتصه؟

ابتعدنا عن الخزانات ببضعة أمتار، ثم بدأ أبي يشير بأصبعه إلى مكان آخر.

في هذا الاتجاه، يمكنكما أن تريا بقايا واد، اسمه “واد سيدي بوعثمان”. اقتربا قليلا حتى تتضح لكما الرؤية ! لقد كان هذا الواد يشكل المصدر الرئيسي لتزويد الخزانات بالماء، خصوصا في فصل الشتاء. وبما أن الواد غير دائم الجريان، فقد فكر الموحدون في استغلال مياهه التي تذهب سدى[9]؛ خصوصا أن مناخ المنطقة جاف، ولا توجد منابع أو عيون لجلب الماء بسهولة.

وكيف كان الموحدون يملؤون هذه الخزانات الواسعة؟ هل كانوا يستعملون أدوات خاصة؟

صحيح أن هذه الخزانات التسع، واسعة. حيث تبلغ طاقتها الاستيعابية حوالي “ثلاثة ملايين ومائتان وأربعة وخمسون ألف”[10] لتر. لذلك فكر المشيدون في طريقة هندسية رائعة، تعبر عن مدى ذكائهم ونباهتهم، وحسن تدبيرهم لندرة المياه. قاموا ببناء سد على الواد، لحبس المياه، وقاموا ببناء قناة تحت-أرضية، تسهل عملية تحويل ونقل مياه الواد مباشرة إلى الخزانات، التي شيدت بمادة تمنع التسرب، وهي خليط من الرمل والحصى والجير.

هل كان الموحدون يشربون مياه الواد الملوثة؟ تضيف لمياء.

قبل أن تصب المياه في الخزانات، كان لا بد أن تمر بمحطة أخرى، تقع في نهاية القناة. وتسمى هذه المحطة بـ “الصهريج”، ويكمن دورها في المساعدة على ترسب المواد الصلبة والنفايات التي تجرفها التيارات المائية. وقد تم طلاء الصهريج بخليط من الجير ومواد أخرى، لمنع تسرب المياه.

حسنا؛ إذا كان الصهريج ينظف المياه من النفايات التي تجرفها التيارات، فماذا عن هذه الثقوب الكبيرة التي يمكن أن تسمح بدخول الحشرات والحيوانات التي من شأنها أن تلوث الماء؟

سؤال جيد. لقد كان لكل ثقب أو فوهة من هذه الفوهات، غطاء. ويطلق على هذه الأغطية اسم “المثابات”.

وهي قطع خزفية مزخرفة، تتجلى قيمتها في تهوية مياه الخزانات، وحمايتها من الحيوانات والحشرات وبالتالي من التسمم والفساد. واتسمت هذه المثابات بنقوش وزخرفات مختلفة، منها ما هو مكتوب أي مخطوط، ومنها ما هو مرسوم، بحيث يمكن أن تأخذ الرسوم شكل أوراق نباتية، سنابل، أياد آدمية أو نجوم.. ما يعبر عن حس هندسي وإبداعي قل نظيره.

وأخيرا أخرجت آلة التصوير. لم أعد أبالي بحرارة الشمس. لم أعد أكترث للجوع والعطش. دخلت إحدى الخزانات، فإذا بها باردة. لا تزال قائمة، هذه الحفر العجوز، الطاعنة في العمر، كأنها تصارع الزمن.

تبعتني لمياء حاملة حقيبتها الصفراء؛ أخذت كيسا شفافا، وشرعت في جمع عينات رمل وحصى، حتى تخضعها للفحص في مختبرها الصغير. لكن مسطرتها ذات العشرين سنتمترا، لم تسعفها في قياس طول الخزانات. الشيء الذي أثار غضبها.

كان أبي يراقبنا بفضول من السطح، حين لفتت انتباهه مسطرة لمياء. قال لها ساخرا:

كم سيكلفك قياس طول الخزانات من الوقت؟ في المرة القادمة، يجب أن تحضري مسطرة أطول أو شريطا متريا. على العموم، فطول الخزانات الإجمالي يبلغ تسعة وأربعون مترا، وعرضها يبلغ خمسة وعشرون مترا. بينما تبلغ مساحتها الإجمالية حوالي ألف ومائتان وثلاثون مترا مربعا.

إن ما أثار استياءنا أنا ولمياء هو حالة الخزانات الرديئة. كانت هناك نفايات من البلاستيك، الحديد، جثث حيوانات ووحل.. عكرت هذه المشاهد مزاجنا، وشوهت صورة هذه المعلمة التاريخية. لم يكن بمكنتنا سوى الشعور بالأسى والأسف. قلت للمياء مغتاظا[11]:

كيف يعقل أن تستحيل هذه التحفة الفنية، التي كان لها دور مهم في الماضي البعيد، إلى هذه الحالة المزرية؟ أليس هناك من يهتم بهذه المعلمة التاريخية في هذه المدينة؟

صحيح، تقول لمياء، ربما لا يعرف الناس الأهمية التاريخية لهذه الخزانات. أضف إلى ذلك أنه لو لم يحدثنا أبي عن تاريخها، وعن الدور الذي كانت تلعبه قرونا مضت، لما عرفنا قصتها نحن أيضا.

خرجنا من الخزانات، نتصبب عرقا، فوجدنا أبي يتحدث إلى طفلين، كان يبدو أنه يعرفهما. كانا قد جلبا لنا بعض الماء وبعض الحليب الطازج والبيض المسلوق. لطالما كان يحدثنا عن كرم وجود أهل هذه المنطقة. نادانا أبي لنلتحق بهم، ثم أردف[12]:

أقدم لكما نسرين ومحمد، وهما تلميذان مجتهدان من أبناء المنطقة، سبق أن التقيتهما هناك، داخل ذلك الخزان. (يشير بأصبعه).

تصافحنا وتبادلنا الابتسامات. كان الطفلان خجولان.

هل تعرفان قصة هذه الخزانات؟ تسأل لمياء.

معظم الناس هنا، لا يعرفون، للأسف، تاريخ هذه الخزانات. أما نحن، فمنذ أن حدثنا “السي عبد الله” عن قصتها، ونحن نحاول إقناع أسرنا وأصدقائنا بجدوى الاهتمام بها وعدم إلقاء النفايات داخلها؛ يقول محمد.

نعم، تتابع نسرين، في المدرسة، كنا قد قررنا تخصيص يوم من أيام العطلة الصيفية، لتنظيف المكان وغرس بعض الأشجار هنا. لكن كل محاولاتنا باءت بالفشل. يقول والدي أن هذه البنايات آيلة [13] للسقوط في أية لحظة، وفي ذلك تهديدا لسلامتنا. بالإضافة إلى أن الرائحة الكريهة المنبعثة من الداخل، وقابلية وجود حشرات سامة، كانت من الأسباب التي منعت زملائنا في المدرسة من الالتزام بوعدهم.

“العين بصيرة واليد قصيرة”، كما يقول المثل، يضيف محمد، بنوع من الإحباط.

فجأة، استيقظ السنجاب، بعد أن نام طيلة أحداث هذه التجربة. كان يتضور جوعا. عدنا إلى المكان الذي ركن فيه أبي السيارة. رافقنا محمد ونسرين. أخرج أبي من صندوق سيارته مظلة شمسية، بساطا أسود وحقيبة جلد صغيرة.

بعد أن نصب أبي المظلة وفرش البساط على مقربة من بعض الأزهار التي ذبلت، تناول حقيبته وأخرج بعض الحلوى والشوكولاطة، فقدمها للطفلين. كانت السعادة بادية على وجهيهما. أما السنجاب، فكان قد التهم البيضة الثانية. تناولنا وجبة الغذاء سويا، أخذنا صورة سيلفي جماعية، لملمنا أغراضنا وودعنا نسرين ومحمد. ثم شددنا الطريق إلى مراكش.

في طريق عودتنا، نام السنجاب من جديد. أما أنا ونسرين، فقد خطرت ببالنا فكرة رائعة. إذ قررنا أن ننظم معرضا صغيرا بمؤسستنا، نعرض فيه كل ما جمعنا من صور وعينات من الفخار، كانت قد عثرت عليها لمياء.سمع أبي كل تفاصيل الحديث الذي دار بيننا وأجابنا مفتخرا:

إنها فكرة جيدة. أحييكما على مبادرتكما التي ستكون مفيدة لا محال. سأكون حاضرا بكل تأكيد وسأساعدكما في تنظيم معرضكما الواعد. هل فكرتم في اسم له؟

[1]  عالم آثار

[2] حاذقة، ماهرة

[3] مدينة تقع في جنوب فرنسا

[4] توما دو كونانك، الجهل الجديد ومشكلة الثقافة؛ ترجمة منصور القاضي، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،ط.1،2004، ص.61.

[5]  المزعجة

[6]  قديمة

[7]  هي أقدم موقع أثري بالمغرب، أسست في القرن الثالث قبل الميلاد، وتبعد عن مدينة مكناس بحوالي عشرون كيلومتر.

[8]  قصر بناه السلطان السعدي في نهاية القرن السادس عشر، بمراكش، احتفالا بانتصاره على البرتغاليين في معركة وادي المخازن سنة 1578.

[9]  هباء، دون فائدة.

[10] 3.254.000 لتر

[11]  غاضبا

[12] أضاف

[13]  قابلة

* كاتب مغربي 

https://anbaaexpress.ma/6f606

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى