نقل في قصة عن الأمام أحمد بن حنبل الذي يروى عنه أنه كلف ابنه بحفظ خمسة آلاف حديث، حتى إذا انتهى قال له كل ما حفظت يا بني أحاديث مكذوبة؟ ضج الابن بعد كل هذا الجهد.. ولم يا أبت لم؟؟ قال: يا بني حتى إذا مرت عليك عرفت زيفها فورا..
وفي جو يحفل بالغش والخداع والصراع السياسي وتوظيف النصوص للصراع الحزبي، يجب تعلم هذه القاعدة من تدريب العقل النقدي الصارم في تلقي الأخبار والتأكد منها، وهو ما حصل من خداع العالم الكوري وضحكه على الذقون واللحى لمدة عامين كاملين.
فلمدة سنتين بقي العالم الكوري الجنوبي (هوانج وو سوك Hwang Woo Suk) النجم اللامع في أبحاث الاستنساخ، يُستقبل في القصر الجمهوري، ويحيط به الحرس الخاص، وتحت قدميه قطيع من سيارات الليموزين التي تذكر بطول قطار، ويفرش له السجاد الأحمر، وتتسابق الفضائيات والجرائد لتسجيل مواعظه عن العالم الجديد.
وظهر أن كل ما فعله وادعاه كان باطلاً وقبض الريح.
زعم أنه توصل إلى استنساخ أجنة إنسانية، وزعم أنه وضع يده على سر الخلايا الجذعية، ووعد المحبطين في كل العالم، أن عصر القضاء على أعتى الأمراض أشرقت شمسه، وأصبح في متناول اليد، وأن علاج أمراض مستعصية مثل باركنسون والسكري واحتشاء العضلة القلبية والقصور الجنسي أصبحت قاب قوسين أو أدنى، والذي ظهر إلى السطح الآن أن القصة كلها كانت مفبركة كاذبة، من الألف للياء، فلم يستنسخ، ولم يصل إلى الخلايا الجذعية الإنسانية، ولم يحقق القضاء على حجم بعوضة من الأمراض؟!
لما رويت هذا لابنتي آمنة قال متعجبة: ولكن كيف أمكن له أن يضحك على الناس كل هذه الفترة؟؟ قلت لها ولكنها كان فترة كافية أن يملأ جيبه بالأموال، وفي النهاية لتتمرغ سمعته في الأوحال.
والعلم هو قانون وتسخير، فما لم تعاد التجربة في كل مكان وعلى كل يد، فلا تنتقل من النظرية إلى العلم، فهذه مؤشرات العلم.
وهذا يقول أن علينا أن نتذكر قصة الصياد والقبرة، في مواعظها الثلاث أن لا نصدق كل ما يقال، والرأي العام عادة موزع بين الثقة العمياء، والشك القاتل، والصحيح هو الشك النقدي المستنير، وفي القرآن أنه لن تنجو يوم القيامة إلا النفس اللوامة. ولم يأت مقتل العالم الإسلامي إلا من سيطرة التيار النقلي بدون نقد.
ولمعرفة خطورة ادعاء الدجال الكوري، لابد من معرفة ماذا تعني الكلمات الفائتة، مثل الاستنساخ؟ والخلايا الجذعية؟ وأهمية هذه الخلايا في علاج الأمراض المستعصية؟
وصل الطب حاليا إلى عتبة جديدة، كما كان الحال في عصر فيرشوف، ودخول عالم الباكتريا والتعقيم أيام باستور وكوخ؛ فالأمراض مثل السكري باركنسون سببها نقص وعجز في خلايا قاعدة الدماغ، أو خلايا بيتا في جزر لانغرهانس في المعثكلة، أي قصور في مصانع إنتاج الأنسولين أو الدوبامين.
وضربة العلم الموفقة حاليا ليست في حقن المرضى بإبر الأنسولين، أو جرعة الدوبامين في مرضى الارتعاش اللاإرادي، والايبانوتين عند مرضى الصرع، بل إدخال نفس المصانع إلى الجسم، فيمكن حقن القلب (طبعاً نظريا) بخلايا القلب من نفس الشخص حتى لا يرفضها، لتأخذ مكان الخلايا المتموتة، عند مريض تعرض لاحتشاء قلب، فيرجع القلب يضرب مثلما كان. أو خلايا البنكرياس ليعالج مرضى السكري مرة واحدة ما لها من فواق. أو تزرع الخلايا السوداء في قاع الدماغ حذاء اللطخ السوداء (Substentia Negra) حتى تهدأ اليدين من ارتعاش، وتنفرج الأسارير من سحنة جامدة. عند مرضى باركنسون.
وهذه الخلايا، أو المصانع الأولية، أو المعروفة بالخلايا الجذعية (Stem Cells)، هي تلك الخلايا غير المتميزة، والتي تتشكل بعد الانقسامات الخلوية الأولى بعد رحلة التلقيح.
والخلية الملقحة الأولى، سواء كانت في التلقيح الجنسي، من بويضة وحيوان منوي، أو بطريقة الاستنساخ الذاتية، تنشطر، فإذا أصبحت ثمانية أمكن سحب واحدة منها، وتركها تمضي في رحلة التكاثر فيتخلق بشر سويا، ويمكن الاحتفاظ بالسبع المثاني في النتروجين 160 تحت الصفر، فتعيش عشرة آلاف سنة، ويمكن دفعها للحياة مرة أخرى، فتخرج من جديد نفس النسخة الأصلية، ويمكن أن يكون هذا لكل واحد منا، فيخرج مذهولا وهو يقول يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ هذا ما وعد العلماء وصدق الباحثون.
أما تكاثر الخلايا في مرحلة الخلايا المئوية الأولى فتكون كلها متشابهة، حذو القذة للقذة، ومنها تنقسم مجموعات لتشكل 210 نوعاً من الأنسجة، مثل الجهاز الهضمي والغدي والتناسلي والتنفسي والعصبي، في بدن يضم سبعين مليون مليون (عشرة مرفوعة إلى قوة 12) خلية.
أي أن كل خلية فيها قابلية أن تتحول إلى أي نوع من الأنسجة، وهنا السر المغطى.
والمهم في الخلايا الجذعية القادمة من الاستنساخ الذاتي، أنها تأتي من نفس الشخص، كما لو أخذنا خلية من باطن فم إنسان، ودفعناها للتكاثر الذاتي، بطريقة النعجة دوللي، أنها ستعطي خلايا من نفس الشخص، فتؤخذ الخلايا الجذعية البدائية، ويتم التلاعب فيها كيميائيا، بالغزل معها بإغراقها بالحب بمواد معينة؛ فتصبح نفس الخلية، حسب المادة الكيميائية الممنوحة لها، خلية كبدية أو قلبية أو عظيمة، أو ما شاء لها من الأنواع 210 التي ذكرنا.
وفي هذه النقطة يعكف العلماء على فهم لماذا تتحول خلية أولية إلى خلية عصبية أو دموية أو هضمية؟ وفي هذه النقطة زعم العالم الكوري (هوو سوك) أنه فك اللغز، وأماط اللثام عن السر، ولكن لم يكن أكثر من دجال علمي، فخسر سمعته وباء بالخسران المبين، وهذا يعطي أيضا معنى القدرة الذاتية في التصحيح العلمي.
ولكن لماذا يكذب عالم جليل دؤوب متبتل في محراب العلم؟
حسب عالم الاجتماع السويسري ( اندرياس ديكمان Andreas Diekmann) المتخصص في تاريخ التزوير العلمي كذا ؟؟ فهو يقول “إن فضائح من هذا النوع تحدث كل سنتين أو ثلاث”. والقرآن يتحدث عن المنافقين فيقول أولا يرون أنهم يفتنون كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
ولعل مقاتل العلم هي ثلاث حسب تعريف ديكمان المختصرة بثلاث حروف (FFP = Fabrication – Falsification – Plagiarism) وهي تترجم إلى التزوير والفبركة والانتحال.
الفبركة: أدعاء شيء لم يحصل..
التزوير: تزوير شيء بغيره.
الانتحال: ادعاء عمل قام به غيره.
وحينما تحدث القرآن عن أهل الكتاب قال: يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ فالقضية العلمية والكذب فيها ليست جديدة على العقل الإنساني، وفي الآية إشارة إلى ثلاث أمراض: خلط الحقائق أي الفبركة، وهو ما سماه لبس الحق بالباطل فيبدو الباطل حقا، وهو ليس كذلك، والثانية إخفاء الحقائق، والثالث التعمد في هذا وفق خطة مدروسة، أي التزوير في أخفاء الحقائق وإظهار خلافها من نتائج الأعمال، وهي التي وقع فيها العالم الكوري، حين فبرك أشياء ادعى نتائج وصلها، ولم يصل إليها قط.
ولكن ما هو الدافع(Motive) لورطة من هذا القبيل؟
يبدو أن المقتل كان من نشوة الشهرة الكاذبة، فالرجل كان يستقبل في كل ناد أنه الأعظم، بل وضعت صورته على طوابع البريد، وهو يذكر بالفيلسوف (باروخ سبينوزا) الذي أشار في أول كتابه (رسالة في تحسين العقل)، إلى أن معظم الناس إلا الندرة منهم، يبحثون عن السعادة في المال والشهوة والشهرة، ولكن لا سعادة كاملة شاملة ، ومستمرة دائمة تأتي من هذه الثلاث.
والعالم الكوري (هوانج وو سوك) لفت النظر بشذوذ طروحاته. وفي هذه النقطة يجتمع الصادقون والكاذبون، فالطبيب النمساوي (سيمل فايس) الذي أشار إلى موت الحوامل لحمى النفاس، وأن التعقيم واقي، فصدق ونجا.
أو (كلايد تومباو Clyde Tombaugh) الذي قام بأخذ تسعين مليون صورة للسماء قبل إعلان كشف بلوتو الكوكب التاسع. في جهد وصفه أنه كاد أن يهلكه وهو في عمر 24 عاما، أو (جريجوري ماندل) الذي فتح الله أمام عينيه قوانين الوراثة الثلاثة، قبل الكشف عنها في الكود الوراثي، الذي أعلن عنه لاحقا في الستينات (جيمس واتسون) و(فرانسيس كريك)، ولكن عالمة مثل (روزاليند فرانكلين) سرق جهدها عن طريق المشرف على عملها (موريس ولكينز) ليقدمه على طبق من ذهب للمذكورين، ليحصدا جائزة نوبل؟
كما أن (اديسون) المشهور سرق جهد العالم الصربي (تيسلا) الذي اكتشف التيار المتناوب، كما جاء في كتاب (القوة) لروبرت غرين، وكانت معلومة صاعقة لي، ولم تكن يومها معروفة سوى الكهرباء الساكنة.
والعالم يعرف أديسون ويشيد به، ولعل الندرة من سمع بـ (تيسلا) المسكين كما حصل معي مؤخرا. ومن يسمع حاليا بأجهزة الرنين المغناطيسي تيسلا ثلاثة فيتذكر هذا العالم المجهول المسكين الذي أكل حقه وانطفأت شهرته وهو في قيد الحياة.
وكل ما أوردناه غيض من فيض على أن العلم بدون طاقة أخلاقية مثل أي طاقة تضل عن سواء السبيل، والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
