في 23 كانون الأول الجاري سقطت طائرة تقل وفدا ليبيا عسكريا رفيع مستوى في طريق العودة من زيارة لأنقرة. قضى كافة الركاب بمن فيهم رئيس الأركان الليبي الفريق أول محمد علي الحداد.
تناوب الخصمان الليبيان، رئيس الحكومة في طرابلس عبد الحميد الدبيبة، وخليفة حفتر قائد “الجيش الوطني الليبي” شرق البلاد، على نعيّ الراحل في لحظة حداد ليبي جامع. قبل الحادث بخمسة أيام أبرم حفتر في بنغازي، صفقة أسلحة مع باكستان “أسمعت ثناياها من بهم صمم”. ولا شك أن وفد ليبيا العسكري الراحل أثار مع الحليف التركي مسألة تطوّر عسكري “عجيب” يحدث شرق ليبيا.
ظهر الاتفاق في 18 من الشهر الجاري بعد يوم من وصول قائد الجيش الباكستاني عاصم منير إلى بنغازي. تحدثت المعلومات عن صفقة أسلحة باكستانية تتجاوز قيمتها الـ 4 مليارات دولار.
ووفق وكالة رويترز، تضمنت نسخة من الصفقة قبل إبرامها شراء 16 طائرة مقاتلة من طراز جيه إف -17، وهي طائرة مقاتلة متعددة المهام تم تطويرها بشكل مشترك بين باكستان والصين، و12 طائرة تدريب من طراز سوبر موشاك التي تستخدم في التدريب الأساسي للطيارين، إضافة إلى معدات برية وبحرية وجوية موزعة على عامين ونصف.
لا ردّ فعل من حكومة الدبيبة في طرابلس على إبرام باكستان، الدولة الإقليمية النووية، اتفاق دفاع مع حفتر في بنغازي. لا يمتلك الأخير الشرعية الدولية الأممية التي يتمتع بها الدبيبة. لكن ذلك لا يمنع إسلام أباد من عقد صفقة أسلحة، قالت مصادر باكستانية إنها الأكبر في تاريخ البلاد.
في بنغازي قال قائد الجيش الباكستاني إن “باكستان اليوم ليست معتمدة على الغرب، وفي حربنا الأخيرة مع الهند أظهرنا تقنيتنا للعالم، وما تفعله (هذه التقنية) بالتقنية الغربية، وهزمنا التكنولوجيا الروسية وهزمنا التكنولوجيا الفرنسية التي استخدمتها الهند في المجال الجوي، مقاتلات رافال وسوخوي 30 وميج 29 وميراج 2000 وصواريخ S400”. لينتهي بالقول إن “كل قطعة سلاح وكل تكنولوجيا نمتلكها في باكستان متاحة لإخواننا في ليبيا”.
هي صفقة بطعم الصفعة تقلب طاولة اللاعبين جميعا في الملعب الليبي. يفيد صمت حكومة الدبيبة بأن “أمرا خارجيا” أوحى بهذا السكون. لكن اللا تعليق انسحب على لاعبين كبار مثل مصر والإمارات وروسيا وتركيا نفسها، على نحو يرجّح أن ما هو مفاجأة استراتيجية يجري يغموض من غير تنافر مع كافة أصحاب النفوذ.
تقول المعلومات إن حفتر يسعى إلى تنويع مصادر تسليحه بعد أن شحّت مصادر روسيا بسبب انشغالها بالحرب في أوكرانيا. كما أن تركيا لم تعد خصما لحفتر ومعسكر شرق ليبيا، بل بات التواصل يجري على مستوى زيارات قام بها صدام حفتر نجل قائد الجيش الوطني ونائبه لأنقرة واستقباله من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
فيما باتت زيارات رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالن تشمل بنغازي وحفتر حين يمر على ليبيا. ناهيك من أن تركيا شريك لباكستان في ملفات أهمها الصناعة العسكرية، ولا يضيرها تمدد سلاح باكستان صوب ليبيا.
ينسحب الأمر نفسه على مصر التي قد لا تجد في الإطلالة الباكستانية إلا مياه تتدفق نحو طواحينها. ولا ترى في “الصفقة الباكستانية” ما يهدد مصالحها أو ينال من أمنها الاستراتيجي.
وفيما يروج سؤال بشأن موقف الإمارات من هذا الحدث، فإن جهات باكستانية تتبرعت بمعلومات تقول إن أبوظبي كانت وسيطا مسهّلا لتواصل حفتر بباكستان وبدء مسار ظهر لافتا بزيارة صدام حفتر إلى إسلام أباد في تموز الماضي.
غير أن “الصفقة الباكستانية” التي يبدو الضجيج حولها خافتا، تنطوي على أبعاد وجب عدم إغفالها. لا يمكن قراءة الحدث من دون الإقرار بأنه متناسل من “اتفاق الدفاع الاستراتيجي المشترك” الذي أبرمته السعودية وباكستان في أيلول الماضي.
ولا يمكن وفق هذا السياق إلا الاستنتاج أن صفقة ليبيا لم تُبرم من دون التشاور مع الرياض، وربما بتشجيع سعودي يصبّ داخل خريطة المصالح السعودية الجيوستراتيجية.
وللصفقة أيضا روائح مصدرها الصين، ذلك أن الأسلحة المتفق على بيعها إلى حفتر وجيشه، لا سيما تلك الاستراتيجية الحديثة، هي نتاج مشاريع تصنيع مشترك بين باكستان والصين. ولئن لا تباع تلك الأسلحة إلا بما يصبّ في مصالح الشريكين، فإن للصين مصلحة في أن تتمدد أذرعها التسليحية صوب ليبيا وهي التي لمست دولا عديدة في المنطقة، لا سيما مصر على الحدود المباشرة لهذا البلد.
في إسلام أباد من يؤكد أنها صفقة اقتصاد ومال ولا اهتمام لباكستان بقضايا السياسة في ليبيا. وفي خلفية الحدث من يتوقّع أن لا يبقى صمت العواصم ساري المفعول إلا إذا كانت الأركان المباشرة والخفية للصفقة جميعها متقاطعة راضية تتحقق مصالحها بتطوّر لافت بهذا المستوى.
قد تفرج الأيام المقبلة عن ضجيج اعتراض، من دول غربية ترى في تمدد باكستان صوب ليبيا بعد السعودية تطوّرا طارئا غير محسوب. ولئن لم تظهر روما المعنيّة تاريخيا وجغرافيا بشؤون ليبيا موقفا رسميا، غير أن تقارير إيطالية تبرّعت بالتحذير من “المخاطر” التي قد تطال إيطاليا جراء صفقة أسلحة كهذه تتجه إلى بلد يقع على مسافة قريبة من سواحل صقلية.
بالمقابل فإن باكستان المرشحة لإرسال قواتها إلى غزّة وفق رؤى خطة ترامب، هي جزء أيضا من مشروعه للسلم في المنطقة بما قد يمنح إسلام أباد رعاية واشنطن وبركتها لصفقة بنغازي.
تخفي “صفقة باكستان” في ليبيا مسارات جديدة لهذا البلد. لكنها تكشف عن أعراض تحوّل في خرائط اللاعبين في الشرق الأوسط تفسّر انخراط دولة إسلامية نووية في شؤون المنطقة، وتفسّر أيضا لماذا كانت باكستان وأندونيسيا على طاولة ترامب قبل أيام من إعلانه خطته لإنهاء حرب غزّة وإقامة سلام شامل في المنطقة يطيب له أن يردد أنه لم يحصل منذ 3 آلاف عام.




