منير لكماني
في المدن التي تخفي تعبها خلف طبقات من الضجيج، وتداري شحوبها تحت أضواء لا تعرف الرحمة، تنشأ أماكن تقف خارج الزمن، كأنها ثقوب في ذاكرة المدينة.
أماكن لا تعترف بالنهار ولا تستجيب لنداء الليل، تفتقر الى الحيوية لكنها لا تمتلك شجاعة الموت. هناك، عند تخوم هذه الجغرافيا المنسية، تتكون غرف لا يزورها الضوء إلا وهو متردد، يدخلها على إستحياء، كغريب يستأذن في عبور بيت ليس بيته.
في تلك الزوايا الضيقة، بين جدار بارد وكرسي فقد صبره وباب يشبه فما مغلقا على إعتراف قديم، لا يكون المرض هو الخصم. الخصم الحقيقي هو اللحظة التي يجد فيها الإنسان نفسه عاريا من كل حيلة، مسقطة عنه الأقنعة التي صنعها بعناية، فلا يبقى أمامه إلا صورته الأصلية: هش، مرتجف، يتشبث بما تبقى من قوته كما يتشبث غريق بخشبة عابرة.
في تلك اللحظات، يتغير تعريف العمر. تمتد الدقيقة حتى تصير ممرا لا نهاية له، ويغدو الجسد أقرب الى فكرة منه إلى مادة. هناك يدرك المرء أن جسده لم يكن يوما وطنا آمنا، وأن قلبه ليس الحصن الذي توهمه، وأن الزمن قادر على هزيمته بنظرة، بنتيجة تحاليل عابرة، بزفير يرتبك في منتصف الطريق.
الإنتظار، في تلك الأماكن، ليس وقتا يمر، بل إمتحان دقيق للروح. إمتحان بلا أسئلة واضحة، ولا أجوبة معروفة، ولا إحتمال للغش أو النجاة. يتحرك الإنسان فيه بين ضيقه وأمله كما تتحرك النملة على حافة كأس، تتعثر دون ان تسقط، وتنهض دون أن تضمن البر.
وهناك، عند آخر شارع يغط في نوم نصفه في النهار وتستيقظ أشجاره على وقع أقدام العائدين من المستشفيات، كانت العيادة. مكان صغير، لكنه يحمل من المعاني ما تعجز عنه مدن كاملة. مسرح يعتلي خشبته الخوف، مؤذن يرفع صوت الوجع، ومحراب تتلى فيه أدعية بلا صوت.
وهنا، في هذا المكان الذي يتجمد فيه الزمن ثم يذوب ببطء، تبدأ الحكاية.




