شيء ما يصعب أن يشطبه الكوجيطو في قرار إطلاق الشّك المنهجي، فهو ثاوي بين ضلوع الشّاك نفسه، أرضية لا غنى عنها لانطلاق الفكر نفسه: المراد الجدّي، وحسن النّية، ومبدأ التناقض المنطقي، بل ومبدأ الهوية، من حيث أنّ الأنا-أفكِّر واعي بثبوت الهوية. شيء أساسي يهمّني في درء الأفهام السيّئة حول الكوجيطو، أعني أنّ الكوجيطو في مقام النظر عاجز عن إطلاق التطهير العام للمسبقات الذهنية.
فماذا عن الكوجيطو في مقام العمل؟ وهل بإمكانه الجريان في مورد العقل العملي؟ وحتى هذا مما لا حاجة لإثباته، لكن ماذا عن لواعج سيكولوجيا المفكّر، وماذا عن هواجسه وهلاوسه المسبقة، تراكيب النّفس وانزياحاتها؟ هذه ليست متروكة للكوجيطو، بل هي موضوع التحليل النّفسي.
محفّزان أساسيان للشخصية دار حولهما التحليل النفسي بوجهيه الفرويدي والأدليري: عقد أوديب وعقدة حقارة.
ولا أخال الكوجيطو قادرا على وضعهما بين قوسين، بينما هما مؤثّران في البنية العميقة للمعرفة. من هنا فإنّ الكوجيطو حتى الآن فُهم فهما تبسيطيا، متجاهلا لواقعية التركيب.
فالفكر ليس إلاّ وظيفة تركيبية تنطلق من واقع تركيبي، والذات لا تفكّر من فراغ، بل هي حصيلة تفاعل تركيبي بالغ الحساسية. ومن هنا كنت قد اقترحت قلب الكوجيطو، أي أنا موجود إذن أنا أفكر، لأنّ الوجود أبده من الفكر. بل في كل آنات الفكر يشرق الوجود.
فلقد أظهر كل من فرويد وأدلر بأنّ مركّبهما ذاك هو مصدر تحفيز الشخصية على كمال الهوية وأيضا مع أدلر تحقق التفوق والنجاح. ليست معضلة عقدة أوديب فيما هي من حيث هي، بل هي في نظره معبر استراتيجي لاكتمال الذات النفسية للشخص، وتحصل المشكلة عند انزياح العقدة وتحوّلها إلى معضلة. وكذلك، فإنّ عقدة حقارة هي عنصر محفّز للتفوق، لكن اختلال هذا المركب ينتج عنه اللاّسواء.
يبدو لي أنّ معضلة التفكير ليست قضية يُصار إلى احتوائها إبستيمولوجيا ، ما لم نأخذ بالحسبان الاختلال النفسي قبل انطلاق الفكر. فالمشهد الفكري ينوء بأكياس سوداء من العقد النّفسية، تخضع مصير الفكر والعقل لهذا الحصر السيكولوجي، الذي وحده يفسّر خوف المفكر من اقتحام العقبة. والعقبة النفسية هي أمّ العقبات التي لها أثر على الوضعية المعرفية في كلّ نشاط ذهني.
تشخيص الذّات المفكرة وتشريح لواعجها النّفسية وقياس مدى شجاعتها وسلامتها من النوراستينيا وعموم العُصاب، واختلال عقدة حقارة وما شابه، كل هذا التشريح يساهم في خدمة السلامة الإبستيمولوجية، ويخرج معرّة المعرفة إخراج الحلزون بالدّبوس لمن أدمن على أكل الحلزون.
إنّ اختباء الذات المختلة خلف محفوظات متداولة من المفاهيم، هو خداع لذات، مقامها الأوّل كرسي المنفوس(يأخذ المريض بعضو ما في اللغة العربية وزن مفعول منسوب للعضو المصاب: كمكبود، ومحموم، ومسنون، هذا اجتهاد له أصل).
إذن مقامه كرسي المنفوس لا كرسي الحجاج. فالحجاج مع المنفوس، ليس فقط ورطة ومتاهة كبرى، بل هو خطر على المعرفة والدماغ والمعنى.
لكن من يملك سلطة إجلاس المنفوس على كرسي الصّابر؟
ثمة مؤشّرات، تعكسها هشاشة التّمثّلات المفاهيمية، النّط بين مقدّمات الدليل المنطقي، الهرولة إلى أحكام قيمة، تحشيد الاستشكالات هروبا من حسم الأقضية محلّ النزاع، ضعف في استيعاب الاستدلال الرّياضي، عدم التسليم بالواضحات، التيهان في تاريخ الأفكار، الإغراق في مفارقة السّلطة، الهروب المرضي إلى الأمام، استفحال النقائض والانتهاكات والذهول في مسار الاستدلال، الخوف من المنطق، لأنّ المنفوس والمنفوش يخشيان من المنطق، لأنّه وحده يلامس نقائضهما.
الاستعانة بحركات أجنبية عن المراد الجدّي، كالضحك الأصفر، والتّلوّي في الحجاج، البارانويا كعقبة، مظهرها المزدوج: العدوان والاستكبار المتداخلان مع الشعور بالإضطهاد.
ومن هنا، لا مجال للحجاج مع المنفوس والمنفوش، إلاّ بحضور شهود عيان ولجان عدول وجمهور يحسم في التباري، لأنّ لا سلطة توقف المنفوس إن كان وحده في البريّة، لأنّ سلوقيّ المنفوس منطلق من كلّ عقال، وله قدرة فائقة على الجريّ في كلّ اتجاه.
حتى الآن تحوّل الكوجيطو إلى صمّة عمياء طخياء في يد حمقى، يستعملونها في الحجاج، ويخفون من ورائها الهشاشة المنطقية.
إنّ التمثّل الأخرق لمفاهيم صلبة أدت دورها التّاريخي في الانتصار للعقل، يجعل الكوجيطو في خدمة التّفاهة التي هيمنت على المشهد الفكري وفتحته على مصراعيه، علما أنّ الكوجيطو يحتاج إلى مزيد من المقاربة، بل إنّ الحاجة باتت ماسة لقيام ميتا-كوجيطو تحميه من سوء الفهم والاستغلال.
لقد بدا واضحا أنّ النظام التعليمي يمكنّ من ظاهرة الاستغلال الخاطئ للمفاهيم، يمنح صكّ عبور للاختلال، ولا يصنع مفكّرين ينتجون مفاهيم حقيقية قابلة للاختبار.
وهذا أمر بات عاما، يشمل كل مجال بما فيه الفلسفة. هل يا ترى يوجد حقل لم تقتحمه التّفاهة، وتنتج داخله مفارقاتها؟ بلى، فالكوجيطو الذي أريد له أن يكون منعطفا في تاريخ العقل والحداثة، تحوّل بدوره إلى وسيلة للحجاج والسفسطة والمُلاوغة وألاعيب أخرى.