آراءثقافة

الرّقص على الأنوسة في نقد التّخنزب الرومانطيقي

كانت المشاريع الأيديولوجية العربية تولد من مخاض عسير، من رويّة وخبرة وقلق يثيره القارئ المتوقّع قبل أن يقع. وخلافا لما نشهده اليوم، كانت الأعمال الكلاسيكية، على ما انتابها أحيانا من هنات، تجري في مناخ سويّ وإستقامة أيديولوجية.

ففي زمن المهانين، كان حظّ التفكير أن يعانق المدارك الدّنيا، وبعد أن فقد وظيفته الطليعية، أصبح سوقا مفتوحة للتّفاهة، وحتى الأيديولوجيا، لم تعد تجد مكانها المناسب. هناك قتل ممنهج للمعنى، وجب رصده في سورة الإنشاء الجديد.

أتجنّب قدر الإمكان أدوات التحليل النفسي لمعالجة هذه الظّاهرة، لأنّ التشخيص والتحليل قد يطول، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأمر يتجاوز الأشخاص، فهو يتعلّق ببنية عقل، حيثما صرّفته ثقافيا أو سياسيا، سيضعك أمام فينومين متثاقفين يفسدون المعاني الكبرى للإنسانية والعواطف النبيلة، من خلال الاختباء وراءها بإنشاء لا يكل ولا يملّ، وبتأمّلات خادعة، هي عالة على ما يفكّر فيه الآخرون، ولطشا لما احتوت عليه مظان المجتهدين، في تمسرح لا رادّ له، وأحكام قيمة زائفة، لأنّها تنطلق من الإسقاط النفسي لأصحابها.

نتساءل ما الذي يجعل متثاقفا نذلا أو انتهازيا، يصرّ، وفي زمن متأخر، على التأنسن بصيغة التنسنس، بل المزايدة بالتأنسن على الأناسي بوقاحة، إلاّ إذا كان التحليل بالإسقاط يدلنا على أنّه يعيش حالة من فقدان الوازع الإنساني.

تلك مغالطة سبق إليها إبليس حين رفض السجود ولاذ بتوحيد المكابر، كما يفعل كثيرون يلوذون بالأنسنة ليمرروا كبرياء تفضحه لواعج الكلام ومزاعم القول.

لا نحتاج في الأنسنة والمشاعر الإنسانية إلى العضّ على شعاراتها لإخفاء الطابع العدواني والانتهازي، فالتأويل، تأويل النصوص والشخوص كفيل بأن يقوض هذا الخداع المستثقف، وكان لا بدّ أن نذكّر بهاليل التّنسنس، بأنّهم وصلوا متأخّرين في هذه الصناعة، وبأنّهم منبهرين بالذّات حدّ الهلوسة والسقوط في فوبيا الإنحساد، وهل الناس تحسد البهاليل والمرضى؟!وجب تفهّم من وصل متأخّرا يستدرك بالإنشاء ويرمم فتوق ماضي بليد. ولكن المضيّ في تلبيس إبليس، تتطلّب قدرا من منطق الإقناع خارج لعبة الاستذئاب المعرفي، وتصيّد الغافلين خلف السّهوب.

تستطيع أن تكتشف الطّغيان واللاّسواء من نصوص متنسنسة في إيمائياتها، لن يحجبها الإسهال في هذا الإنشاء الإنسانوي المبهلل.

فالحبّ والقيم العليا لا تسكن قلبا انتهازيا أو عقلا متلصّصا على النّصوص. ففي الفوضى العربية لم يترك الدجل مجالا لم يخترقه بما فيها الأنسنة.

رحم الله محمد أركون الذي نكاد ننسى أنّه صاحب هذا المشروع المغني للّبيب عن كتب الأعاريب في مجال الأنسنات. فأركون هو ابن مجال وتجربة كفيلة بذلك، ومن أراد أن يسطو على تراثه بخدعة الإنشاء، فسيجد من يربّيه معرفيا، ولم لا، يضربه على قفاه عساه يستيقظ من غفلة الإدعاء.

أُذَكِّر باستمرار، أنّ تاريخ الأفكار شعبة وليس لعبة، لا سيما في المجال العربي، حيث يتعرّض لفوضى التّلاص، حتى لم نعد ندري منطق النسبة. هناك مغالطة التضخيم والتكرار، وهذا يعني خدعة الإقناع بالزيف، وهي محاولة لسرقة امتيازات جيل الرّواد وأصحاب المشاريع الكبرى وصناع المفاهيم الحقيقية.

لديّ رغبة وتصميم أن أرسم شجرة نسب الأفكار الكبرى عربيا على الأقل، وإعادتها إلى منابعها الحقيقية، تسليط الضوء على ظاهرة السطو على المشاريع والأفكار، وإخفائها تحت طائلة الإنشاء والتكرار، وأساليب الاختباء خلف القيم الكبرى لحجب التّفاهة والانتهازية.

سأرسم قريبا شجرة نسب الأفكار التي يروغ بها خنازب التّلاص في تحيون يتلبّس بالتأنسن، وبكراهية صفراوية تتلبّس بالحبّ والعشق الممنوع.

لا يحتاج الفرسان أن يتحدثوا ليل نهار بالأنسنة والحبّ في زمن كوليرا التفاهة، ويبدو لي أنّ ذلك شكل من التّحرّش والدعاية يستهدف شريحة جندرية معيّنة، وينصب لها فخاخا لا تنطلي على خبراء التفكير ومحترفي المفهمات، فالفرسان والنبلاء لا يشعرون بضرورة الاختباء فيما هو متأصّل في سيرتهم وقناعاتهم العميقة، غير أن التلويح بتلك القيم في سياق مغالطة “حجة السلطة” هو خداع نفس صفراوية، واعلم أنّ من يُفْرِط في الأنسنة استعطافا ومكرا، لن يكون سوى آفة إنسانية وطفيلية ترعى على نُبل الإنسان المفقود في أعماقها.

وثمة تساؤل آخر: لماذا تهيمن الثباتية على إنشاء ملوّن، ومكر الاختزال، للتترس بالعواطف النبيلة كتترس الإرهابيين بالإنسان، بينما الخلاف في المعنى والتفكير؟ لماذا يحصل كل هذا، إلاّ إذا كان الخنزب يعيش هاجس الخوف من عدم كفاية الإقناع.

لماذا يكثر هذا المضغ المتنسنس اللّعين لشيء أجنبيّ عن محلّ النزاع، إلاّ إذا كان الغرض منه الطريق السهل للمغالطة، أي رسم صورة لا إنسانية للآخر، هروبا من جوهر القضية.

في كل توصيفات الخنزب المتجبّر لا نقف على تسامح في الأحكام ولا جود ولا نبل، بل هناك فقط دليل على رغبة عميقة في الثّأر، على طريقة الأعراب وهم أشدّ مكرا وأبعد ما يكونون عن الله والأنسنة، مهما لهث اللّسان لهاثا، وزحف المتثاقف زحفا بلا حدود، لا تحتاج الأنسنة إلى برهان، لأنّها بديهية كالوجود، والإكثار في استعمالها دجل مبين.

إنّنا في سجل هذا الإنشاء نقف على انزياحات خطيرة، قوامها: إنسانوية ضدّ الإنسان، نزعات ثأرية جبانة تتلبّس بالأنسنة، في وصلة من وصلات شارلي شابلان.

تنفضح خدعة كنيسة النسنسة الجديدة، عند تقييمها بالمعايير الجمالية، ويقودنا الحدس إلى التمييز بين الحقيقة والزيف سواء في النظر أو العمل.

ربّما نظرة العارف بالعناصر المرافقة لتطور الإنشاء المنسنس، تجعلنا أكثر إدراكا لزيفه. علم نفس الذّات المستدركة لتاريخ هارب، المرممة لفتوق مزمنة، ذات تسعى لتملّك الأطروحة ونقيضها، ومثاله في النّظر: المعقول واللاّمعقول، وفي العمل: الانتهازية والأنسنة.

https://anbaaexpress.ma/4v5n4

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى